تَمَامَ الرِّضَا كَالْبَيْعِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ، وَمَا لَا يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ يَلْزَمُ مِنْهُ، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عَيْنَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَحُكْمُهُ وَإِثْمُهُ يَكُونُ مَرْفُوعًا عَنْهُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذِهِ فُرْقَةٌ يَعْتَمِدُ سَبَبُهَا الْقَوْلَ، فَلَا تَصِحُّ مِنْ الْمُكْرَهِ كَالرِّدَّةِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْقَوْلَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا، إذَا صَدَرَ عَنْ قَصْدٍ صَحِيحٍ وَبِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ يَنْعَدِمُ ذَلِكَ الْقَصْدُ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَقْصِدُ دَفْعَ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ لَا عَيْنَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى هَذَا الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ أَيْضًا فَيَفْسُدُ قَصْدُهُ شَرْعًا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالطَّلَاقِ كَانَ إقْرَارُهُ لَغْوًا؛ لِهَذَا يُقَرِّرُهُ أَنَّ تَأْثِيرَ الْإِكْرَاهِ الْمُبِيحِ لِلْإِقْدَامِ فِي جَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ وَإِعْدَامِ الْفِعْلِ مِنْ الْمُكْرَهِ، كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ فَيُجْعَلُ الْمُكْرَهُ آلَةً، وَيَصِيرُ كَأَنَّ الْمُكْرَهَ هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِالْإِيقَاعِ فَيَكُونُ لَغْوًا.
أَلَا تَرَى أَنَّ حَقَّ إبْقَاءِ قَدْرِ الْمِلْكِ عَلَى الْمُكْرَهِ جُعِلَ كَالْآلَةِ؛ حَتَّى يَكُونَ الْمُكْرَهُ ضَامِنًا قِيمَةَ عَبْدِهِ عِنْدَكُمْ إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَعْتِقَهُ، وَيَكُونُ ضَامِنًا نِصْفَ الصَّدَاقِ إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَكَذَلِكَ فِي إبْقَاءِ عَيْنِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ يُجْعَلُ آلَةً لَهُ، وَحُجَّتنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُبْغِضُ زَوْجَهَا فَوَجَدَتْهُ نَائِمًا فَأَخَذَتْ شَفْرَةً وَجَلَسَتْ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ حَرَّكَتْهُ، فَقَالَتْ: لِتُطَلِّقَنِي ثَلَاثًا، أَوْ لَأَذْبَحَنَّكَ، فَنَاشَدَهَا اللَّهَ تَعَالَى فَأَبَتْ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ»، وَاسْتَكْثَرَ مُحَمَّدٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآثَارِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِكْرَاهِ حَتَّى رَوَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ أَرْبَعٌ مُبْهَمَاتٌ مُقْفَلَاتٌ لَيْسَ فِيهِنَّ رَدِيدٌ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ وَالصَّدَقَةُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ، أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي مَحَلِّهِ فَيَقَعُ كَالطَّائِعِ، وَتَفْسِيرُ الْوَصْفِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُزِيلُ الْخِطَابَ، أَمَّا فِي غَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَلَا إشْكَالَ، وَفِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ حَتَّى تُنَوَّعَ عَلَيْهِ أَفْعَالُهُ فَتَارَةً يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ، وَتَارَةً يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَتَارَةً يُحَرَّمُ عَلَيْهِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْخِطَابِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ انْعِقَادَ التَّصَرُّفِ بِوُجُودِ رُكْنِهِ وَمَحَلِّهِ، وَلَا يَنْعَدِمُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ، ذَلِكَ إنَّمَا يَنْعَدِمُ الرِّضَا بِهِ، وَالرِّضَا لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّضَا بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ يَنْعَدِمُ، وَلَا يَمْنَعُ لُزُومَ الطَّلَاقِ، فَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ وَبِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ لَا يَنْعَدِمُ الْقَصْدُ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ يَقْصِدُ مَا بَاشَرَهُ وَلَكِنْ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ دَفْعُ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ لَا لِعَيْنِهِ فَهُوَ كَالْهَازِلِ يَكُونُ قَاصِدًا التَّكَلُّمَ بِالطَّلَاقِ، وَلَكِنْ لِلْعَبَثِ لَا لِعَيْنِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute