وَلَا تُجْزِي عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَّا الرَّقَبَةُ الْمُؤْمِنَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: ٢٦٧] وَلَا خُبْثَ أَشَدُّ مِنْ الْكُفْرِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَقَبَةٍ سَوْدَاءَ، وَقَالَ: عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ أَفَتُجْزِينِي هَذِهِ فَامْتَحَنَهَا بِالْإِيمَانِ فَوَجَدَهَا مُؤْمِنَةً فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» فَامْتِحَانُهُ إيَّاهَا بِالْإِيمَانِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالْمُؤْمِنَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا تَحْرِيرٌ فِي تَكْفِيرٍ فَلَا يُجْزِي فِيهِ غَيْرُ الْمُؤْمِنَةِ كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَهَذَا لِأَنَّ الرَّقَبَةَ مُطْلَقَةٌ هُنَا مُقَيَّدَةٌ بِالْإِيمَانِ فِي الْقَتْلِ وَالْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ؛ لِأَنَّ الْقَيْدَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فِي الْمُطْلَقِ، وَقِيَاسُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ صَحِيحٌ، وَلِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهِ فِي عَيْنِ مَا تَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ وَكَذَلِكَ فِي نَظَائِرِهِ اسْتِدْلَالًا بِهِ، وَالْكَفَّارَاتُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَالتَّقْيِيدُ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ فِي بَعْضِهَا يُوجِبُ نَفْيَ الْجَوَازِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِيمَانِ فِي جَمِيعِهَا كَالتَّقْيِيدِ بِشَرْطِ الْعَدَالَةِ فِي بَعْضِ الشَّهَادَاتِ أَوْجَبَ نَفْيَ الْجَوَازِ عِنْدَ عَدَمِهَا فِي الْكُلِّ وَكَذَلِكَ التَّقْيِيدُ بِالتَّبْلِيغِ إلَى الْكَعْبَةِ فِي هَدْي جَزَاءِ الصَّيْدِ أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْهَدَايَا.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ ظَاهِرُ الْآيَةِ فَالْمَنْصُوصُ اسْمُ الرَّقَبَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنْبِئُ عَنْ صِفَةِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، فَالتَّقْيِيدُ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ يَكُونُ زِيَادَةً، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ فَلَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا بِالْقِيَاسِ ثُمَّ قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ عِنْدَنَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ اعْتِقَادُ النَّقْصِ فِيمَا تَوَلَّى اللَّهُ بَيَانَهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ شُرُوطُ الْكَفَّارَاتِ لَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ كَأَصْلِهَا، وَلَا يَجُوزُ دَعْوَى التَّخْصِيصِ هُنَا لِأَنَّ التَّخْصِيصَ فِيمَا لَهُ عُمُومٌ وَالْمُطْلَقُ غَيْرُ الْعَامِّ وَامْتِنَاعُ جَوَازِ الْعَمْيَاءِ وَنَظَائِرِهَا لَيْسَ بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ بَلْ لِكَوْنِهَا مُسْتَهْلَكَةً مِنْ وَجْهٍ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّخْصِيصَ فِيمَا لَهُ لَفْظٌ، وَالصِّفَةُ فِي الرَّقَبَةِ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ وَلَا يُقَالُ: بَيْنَ صِفَةِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ تَضَادٌّ فَإِذَا جَوَّزْنَا الْمُؤْمِنَةَ انْتَفَى جَوَازُ الْكَافِرَةِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْمُؤْمِنَةِ عِنْدَنَا لِأَنَّهَا رَقَبَةٌ لَا بِصِفَةِ الْإِيمَانِ أَلَا تَرَى أَنَّا نُجَوِّزُ الصَّغِيرَةَ وَالْكَبِيرَةَ وَبَيْنَ الصِّفَتَيْنِ تَضَادٌّ، وَكَذَلِكَ نُجَوِّزُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَبَيْنَ الصِّفَتَيْنِ تَضَادٌّ.
وَلَكِنَّ الْجَوَازَ بِاسْمِ الرَّقَبَةِ فَكَانَ الْوَصْفُ فِيهِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فَأَمَّا حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَالْعِرَاقِيُّونَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ» مَعَ قَوْلِهِ «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ»، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَنَا فِي حَادِثَةٍ، وَلَا فِي حَادِثَتَيْنِ حَتَّى جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّيَمُّمَ بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute