الْإِطْعَامَ فِي الْكَفَّارَاتِ يَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ مِنْ الطَّعَامِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالتَّمْلِيكِ مِنْ الْفَقِيرِ وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقُولُ: لَا يَتَأَدَّى بِالتَّمْلِيكِ، وَإِنَّمَا يَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ فَقَطْ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: ٤]- وَالْإِطْعَامُ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ - وَلَازِمُهُ طَعِمَ يَطْعَمُ، وَذَلِكَ الْأَكْلُ دُونَ الْمِلْكِ فَفِي التَّمْلِيكِ لَا يُوجَدُ الطَّعَامُ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي التَّمْكِينِ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يُطْعِمَ الْمِسْكِينَ، وَالْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْإِطْعَامُ يُذْكَرُ لِلتَّمْلِيكِ عُرْفًا يَقُولُ رَجُلٌ لِغَيْرِهِ: أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ. أَيْ: مَلَّكْتُك، وَالْمَقْصُودُ سَدُّ خَلَّةِ الْمِسْكِينِ، وَإِغْنَاؤُهُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالتَّمْلِيكِ دُونَ التَّمْكِينِ فَإِذَا لَمْ يَتِمَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّمْكِينِ لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ، كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَقَاسَ بِالْكِسْوَةِ فَإِنَّهُ لَوْ أَعَارَ الْمَسَاكِينَ ثِيَابًا فَلَبِسُوا بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ، فَكَذَلِكَ الْإِطْعَامُ، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ أَحَدُ أَنْوَاعِ التَّكْفِيرِ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْإِطْعَامُ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ التَّمْكِينُ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ سَدُّ الْخَلَّةِ وَفِي التَّمْلِيكِ تَمَامُ ذَلِكَ فَيَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. أَمَّا بِالتَّمْلِيكِ؛ فَلِأَنَّ الْأَكْلَ الَّذِي هُوَ الْمَنْصُوصُ جُزْءٌ مِمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ فَإِمَّا أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَصْرِفَ إلَى حَاجَةٍ أُخْرَى، فَيُقَامُ هَذَا التَّمْلِيكُ مَقَامَ مَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَيَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ لِمُرَاعَاةِ عَيْنِ النَّصِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ يُشَبِّهُهُ بِطَعَامِ الْأَهْلِ فَقَالَ {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: ٨٩]، وَذَلِكَ يَتَأَدَّى بِالتَّمْلِيكِ تَارَةً، وَبِالتَّمْكِينِ أُخْرَى فَكَذَا هَذَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُشَبَّهِ حُكْمُ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ بِكَسْرِ الْكَافِ عَيْنُ الثَّوْبِ فَأَمَّا الْفِعْلُ بِفَتْحِ الْكَافِ كِسْوَةٌ، وَهُوَ الْإِلْبَاسُ فَثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ التَّكْفِيرَ بِعَيْنِ الثَّوْبِ لَا بِمَنَافِعِهِ، وَالْإِعَارَةُ، وَالْإِلْبَاسُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ، فَأَمَّا فِي التَّمْكِينِ مِنْ الطَّعَامِ الْمِسْكِينُ طَاعِمٌ لِلْعَيْنِ وَبِالتَّمْكِينِ يَحْصُلُ الْإِطْعَامُ حَقِيقَةً، وَهَذَا بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَالْوَاجِبُ هُنَاكَ فِعْلُ الْإِيتَاءِ بِالنَّصِّ، وَفِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ الْوَاجِبِ فِعْلُ الْأَدَاءِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالتَّمْكِينِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ، وَبِمَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ يَحْسُنُ فِقْهُ الرَّجُلِ. ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي التَّمْكِينِ أَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ، إمَّا الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ، وَإِمَّا غَدَاءَانِ أَوْ عَشَاءَانِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ حَاجَةُ الْيَوْمِ، وَذَلِكَ بِالْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ عَادَةً وَيَسْتَوِي فِي خُبْزِ الْبُرِّ أَنْ يَكُونَ مَأْدُومًا أَوْ غَيْرَ مَأْدُومٍ، وَفِي الْكِتَابِ أَطْلَقَ الْخُبْزَ، وَمُرَادُهُ خُبْزُ الْبُرِّ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمِسْكِينَ يَسْتَوْفِي مِنْهُ حَاجَتَهُ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْدُومًا بِخِلَافِ خُبْزِ الشَّعِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي مِنْهُ تَمَامَ حَاجَتِهِ إلَّا إذَا كَانَ مَأْدُومًا، وَكَذَلِكَ لَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ بِسَوِيقٍ، وَتَمْرٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute