للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثُمَّ جَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: ٣٣].

وَبِظَاهِرِ الْآيَةِ يَقُولُ دَاوُد وَمَنْ تَابَعَهُ إذَا طَلَبَ الْعَبْدُ مِنْ مَوْلَاهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ وَقَدْ عَلِمَ الْمَوْلَى فِيهِ خَيْرًا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُكَاتِبَهُ لِأَنَّ الْأَمْرَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ.

وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: الْأَمْرُ قَدْ يَكُونُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَالْإِبَاحَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: ٢]، وَقَوْلِهِ {إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: ٣٣] مَذْكُورٌ عَلَى وِفَاقِ الْعَادَةِ، وَالْعَادَةُ أَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يُكَاتِبُ عَبْدَهُ إذَا عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ إذَا حُمِلَ عَلَى هَذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا شَيْئًا، وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا وَلَكِنْ نَقُولُ الْأَمْرُ قَدْ يَكُونُ لِلنَّدَبِ، وَالْإِبَاحَةُ ثَابِتَةٌ بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ، وَالنَّدْبُ مُتَعَلِّقٌ بِهَذَا الشَّرْطِ فَإِنَّمَا نَدَبَ الْمَوْلَى إلَى أَنْ يُكَاتِبَهُ إذَا عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا.

ثُمَّ الْكِتَابَةُ قَدْ تَكُونُ بِبَدَلٍ مُنَجِّمٍ مُؤَجَّلٍ وَقَدْ تَكُونُ بِبَدَلٍ حَالٍّ عِنْدَنَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَالتَّنْجِيمُ، وَالتَّأْجِيلُ زِيَادَةٌ عَلَى مَا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا بِالرَّأْيِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ بَلْ هُوَ تَرْفِيهٌ، وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُجَوِّزُ الْكِتَابَةَ إلَّا مُؤَجَّلًا مُنَجَّمًا أَقَلُّهُ نَجْمَانِ قَالَ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَلْتَزِمُ الْأَدَاءَ بِالْعَقْدِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْتِزَامِ التَّسْلِيمِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ يَدِ مَوْلَاهُ مُفْلِسًا فَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إلَّا بِالتَّأْجِيلِ، وَالِاكْتِسَابِ فِي الْمُدَّةِ فَإِذَا كَانَ مُؤَجَّلًا مُنَجَّمًا كَانَ مُلْتَزِمًا تَسْلِيمَ مَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَيَصِحُّ وَإِذَا كَانَ حَالًّا فَإِنَّمَا يَلْتَزِمُ تَسْلِيمَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ.

تَوْضِيحُهُ أَنَّ صِفَةَ الْحُلُولِ تُفَوِّتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى حَقُّ الْمُطَالَبَةِ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَالْعَبْدُ عَاجِزٌ عَنْ الْأَدَاءِ وَيَتَحَقَّقُ عَجْزُهُ بِفَسْخِ الْعَقْدِ فَيَفُوتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَكُلُّ وَصْفٍ يُفَوِّتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْ الْعَقْدِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّنْجِيمِ، وَالتَّأْجِيلِ.

قَالَ وَهَذَا بِخِلَافِ السَّلَمِ عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، وَالْعَاقِلُ لَا يَلْتَزِمُ إلَّا تَسْلِيمَ مَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَعَرَفْنَا قُدْرَتَهُ عَلَى التَّسْلِيمِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَهُنَا الْعَبْدُ قَبْلَ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْمِلْكِ فَيُتَيَقَّنُ بِعَجْزِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي الْحَالِ وَلِأَنَّ بِعَقْدِ السَّلَمِ يَدْخُلُ مِلْكَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بَدَلٌ بِقُدْرَتِهِ عَلَى تَسْلِيمِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي الْحَالِ وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ وَهُنَا بِالْعَقْدِ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْعَبْدِ شَيْءٌ بِقُدْرَتِهِ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلِ فِي الْحَالِ (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّ الْبَدَلَ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ مَعْقُودٌ بِهِ كَالثَّمَنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الشِّرَاءِ فَالْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلِ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ مِثْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَتُشْرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ

<<  <  ج: ص:  >  >>