وَنَوْعٌ لَا يَجُوزُ حِفْظُهَا وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى تَرْكِ طَاعَةٍ أَوْ فِعْلِ مَعْصِيَةٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ». وَنَوْعٌ يَتَخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْحِنْثِ، وَالْحِنْثُ خَيْرٌ مِنْ الْبَرِّ فَيُنْدَبُ فِيهِ إلَى الْحِنْثِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ». وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ النَّدْبُ، وَنَوْعٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْبَرُّ وَالْحِنْثُ فِي الْإِبَاحَةِ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، وَحِفْظُ الْيَمِينِ أَوْلَى بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: ٨٩]. وَحِفْظُ الْيَمِينِ يَكُونُ بِالْبَرِّ بَعْدَ وُجُودِهَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ حِفْظُ الْبَرِّ، وَمَنْ حَنِثَ فِي هَذَا الْيَمِينِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {: فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: ٨٩]. وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِعْتَاقِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى حَرْفِ أَوْ؛ وَلِأَنَّ الْبِدَايَةَ بِالْأَخَفِّ وَالْخَتْمَ بِالْأَغْلَظِ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُرَتَّبَةً كَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْأَغْلَظِ.
وَاَلَّتِي لَا تُكَفَّرُ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَهِيَ الْمَعْقُودَةُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمَاضِي أَوْ الْحَالِ كَاذِبَةً يَتَعَمَّدُ صَاحِبُهَا ذَلِكَ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ، وَهَذِهِ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، وَالْكَبِيرَةُ ضِدُّ الْمَشْرُوعِ وَلَكِنْ سَمَّاهُ يَمِينًا مَجَازًا؛ لِأَنَّ ارْتِكَابَ هَذِهِ الْكَبِيرَةِ لِاسْتِعْمَالِ صُورَةِ الْيَمِينِ كَمَا سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْعَ الْحُرِّ بَيْعًا مَجَازًا؛ لِأَنَّ ارْتِكَابَ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ لِاسْتِعْمَالِ صُورَةِ الْبَيْعِ، ثُمَّ لَا يَنْعَقِدُ هَذَا الْيَمِينُ فِيمَا هُوَ حُكْمُهُ فِي الدُّنْيَا عِنْدَنَا، وَلَكِنَّهَا تُوجِبُ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَنْعَقِدُ مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ فَمِنْ أَصْلِهِ مَحَلُّ الْيَمِينِ نَفْسُ الْخَبَرِ، وَشَرْطُ انْعِقَادِهَا الْقَصْدُ الصَّحِيحُ، وَعِنْدَنَا مَحَلُّ الْيَمِينِ خَبَرٌ فِيهِ رَجَاءُ الصِّدْقِ؛ لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ مُوجِبَةً لِلْبَرِّ، ثُمَّ الْكَفَّارَةُ خَلْفٌ عَنْهُ عِنْدَ فَوْتِ الْبَرِّ، فَالْخَبَرُ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الصِّدْقُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْيَمِينِ، وَالْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ مَحَلِّهِ، وَحُجَّتُهُ قَوْله تَعَالَى {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: ٢٢٥]. فَاَللَّهُ أَثْبَتَ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْيَمِينِ الْمَكْسُوبَةِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهَا بِالْقَلْبِ مَقْصُودَةٌ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذِهِ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْكَفَّارَةِ فِي قَوْلِهِ {بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ} [المائدة: ٨٩]. مَعْنَاهُ بِمَا قَصَدْتُمْ، وَالْعَقْدُ هُوَ الْقَصْدُ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ النِّيَّةُ عَقِيدَةً، وَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ مَوْصُولَةً بِالْيَمِينِ بِقَوْلِهِ {: فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: ٨٩]؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلْوَصْلِ، وَقَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ {: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: ٨٩] وَالْكَفَّارَةُ بِنَفْسِ الْحَلِفِ إنَّمَا تَجِبُ بِالْغَمُوسِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: ٨٩] الِامْتِنَاعُ مِنْ الْحَلِفِ فَإِنَّ بَعْدَ الْحَلِفِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ حِفْظُ الْبَرِّ وَحِفْظُ الْيَمِينِ يُذْكَرُ لِمَعْنَى الِامْتِنَاعِ. قَالَ الْقَائِلُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute