للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَيَتَنَاوَلُ مَا يَرْكَبُ مِنْ الدَّوَابِّ فِي غَالِبِ الْبُلْدَانِ وَهُوَ الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: ٨] وَإِنَّمَا ذَكَرَ الرُّكُوبَ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فَأَمَّا فِي الْأَنْعَامِ ذَكَرَ مَنْفَعَةَ الْأَكْلِ بِقَوْلِهِ {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} [النحل: ٥] وَبِأَنْ كَانَ يَرْكَبُ الْفِيلَ وَالْبَعِيرَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ يَتَنَاوَلُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَقَرَ وَالْجَامُوسَ يُرْكَبُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ؟ ثُمَّ لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانٌ رَكِبَ دَابَّةَ الْبَقَرِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ جَمِيعَ ذَلِكَ فَيَكُونَ عَلَى مَا نَوَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ.

وَإِنْ عَنِي الْخَيْلَ وَحْدَهُ لَمْ يُدَنْ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَإِنْ قَالَ: لَا أَرْكَبُ وَعَنِيَ الْخَيْلَ وَحْدَهَا لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ فِي لَفْظِهِ فِعْلُ الرُّكُوبِ، وَالْخَيْلُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ، وَنِيَّةُ التَّخْصِيصِ تَصِحُّ فِي الْمَلْفُوظِ دُونَ مَا لَا لَفْظَ لَهُ.

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ فَرَسًا فَرَكِبَ بِرْذَوْنًا لَمْ يَحْنَثْ وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ بِرْذَوْنًا فَرَكِبَ فَرَسًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْبِرْذَوْنَ فَرَسُ الْعَجَمِ وَالْفَرَسُ اسْمُ الْعَرَبِيِّ، فَهُوَ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَرَبِيًّا فَكَلَّمَ عَجَمِيًّا أَوْ عَلَى عَكْسِ هَذَا لَمْ يَحْنَثْ.

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ شَيْئًا مِنْ الْخَيْلِ فَرَكِبَ فَرَسًا أَوْ بِرْذَوْنًا حَنِثَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَيْلِ يَجْمَعُ الْكُلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: ٦٠] الْآيَةَ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْغَازِي السَّهْمَ بِالْبِرْذَوْنِ وَالْفَرَسِ جَمِيعًا.

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً فَحُمِلَ عَلَيْهَا مُكْرَهًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِهِ فِي الرُّكُوبِ وَهُوَ مَا رَكِبَهَا بَلْ حُمِلَ عَلَيْهَا مُكْرَهًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَمْلَ يَتَحَقَّقُ فِيمَا يَسْتَحِيلُ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَيْهِ كَالْجَمَادَاتِ.

وَإِنْ رَكِبَ دَابَّةً عُرْيَانًا أَوْ بِسَرْجٍ أَوْ إكَافٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ رَكِبَهَا وَالرُّكُوبُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مُعْتَادٌ.

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً لِفُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةً لِعَبْدِهِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنْ يَنْوِيَهَا وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى دَابَّةٍ هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِفُلَانٍ فَإِنَّ اللَّامَ دَلِيلٌ عَلَى الْمِلْكِ، وَكَسْبُ الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ فَيَكُونُ حَانِثًا بِهِ، وَكَوْنُهَا فِي يَدِ عَبْدِهِ كَكَوْنِهَا فِي يَدِ أَجِيرِهِ، وَهُمَا يَقُولَانِ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى دَابَّةٍ هِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَى فُلَانٍ وَهَذِهِ مَنْسُوبَةٌ إلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اكْتَسَبَهَا وَعُرْفًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُقَالُ: دَابَّةُ عَبْدِ فُلَانٍ وَشَرْعًا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ» فَقَدْ أَضَافَ الْمَالَ إلَى الْعَبْدِ فَلَا يَحْنَثُ بِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَا أَدْخُلُ دَارًا لِفُلَانٍ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ النِّسْبَةُ بِالسُّكْنَى دُونَ الْمِلْكِ فَهَذَا مِثْلُهُ ثُمَّ عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>