أَنْفِيهَا؟ أَيْ فِي نَفْيِهَا تَعْرِيضٌ لَهَا لِمِثْلِ مَا اُبْتُلِيَتْ بِهِ فَإِنَّهَا عِنْدَ أَبَوَيْهَا تَكُونُ مَحْفُوظَةً فَفِي دَارِ الْغُرْبَةِ تَكُونُ خَلِيعَةَ الْعَذَارِ، وَالنِّسَاءُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ إلَّا مَا ذُبَّ عَنْهُنَّ، وَإِنَّمَا تَبْقَى الْمَرْأَةُ مَحْفُوظَةً بِالْحَافِظِ وَالِاسْتِحْيَاءِ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالتَّغْرِيبِ فَيَكُونُ تَعْرِيضًا لَهَا لِلْإِقْدَامِ عَلَى هَذِهِ الْفَاحِشَةِ بِرَفْعِ الْمَانِعِ وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ الْخَصْمُ؛ لِأَنَّ مَا يَنْشَأُ عَنْ الصُّحْبَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ يَكُونُ مَكْتُومًا، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ الْمُوَاقَحَةِ يَكُونُ ظَاهِرًا، فَإِنَّ فِي هَذَا قَطْعًا لِسَبَبِ مَا يَنْشَأُ عَنْ الْمُحَادَثَةِ وَهُوَ مَكْتُومٌ فَفِيهِ تَعْرِيضٌ لِلزِّنَا بِطَرِيقِ الْوَقَاحَةِ وَهُوَ أَفْحَشُ ثُمَّ قَالَ: أَرَأَيْت أَمَةً زَنَتْ أَكُنْت أَنْفِيهَا؟ فَأَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَوْلَاهَا وَبَيْنَ خِدْمَتِهَا وَحَقُّ الْمَوْلَى فِي الْخِدْمَةِ مَرْعِيٌّ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الشَّرْعِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَمَةَ لَا تُنْفَى فَكَذَلِكَ الْحُرَّةُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} [النساء: ٢٥] وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ نِصْفَ الْحَدِّ خَمْسُونَ جَلْدَةً ثَبَتَ أَنَّ كَمَالَهُ مِائَةُ جَلْدَةٍ ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ تُنْفَى الْحُرَّةُ مَعَ الْمَحْرَمِ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ لَمْ يَزْنِ فَكَيْف يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؟ وَبِدُونِ الْمَحْرَمِ هِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ الْمُسَافَرَةِ شَرْعًا فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِطَرِيقٍ فِيهِ إبْطَالُ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ شَرْعًا.
فَأَمَّا الْمُهَاجِرَةُ لَا تَقْصِدُ السَّفَرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ وَإِنَّمَا تَقْصِدُ التَّخَلُّصَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى لَوْ وَصَلَتْ إلَى جَيْشٍ لَهُمْ مَنَعَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَمِنَتْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ اُنْتُسِخَ بِنُزُولِ سُورَةِ النُّورِ.
وَالْمُرَادُ بِالتَّغْرِيبِ الْحَبْسُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْزِيرِ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ} [المائدة: ٣٣]: إنَّهُ الْحَبْسُ، وَقَالَ الْقَائِلُ:
وَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
أَيْ: مَحْبُوسٌ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِحَبْسٍ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ وَإِنْ ثَبَتَ النَّفْيُ عَلَى أَحَدٍ فَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ لَا بِطَرِيقِ الْحَدِّ كَمَا نَفَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيتَ الْمُخَنَّثَ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَنَفَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ مِنْ الْمَدِينَةِ حِينَ سَمِعَ قَائِلَةً تَقُولُ:
هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبُهَا ... أَوْ هَلْ سَبِيلٌ إلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ
فَنَفَاهُ وَالْجَمَالُ لَا يُوجِبُ النَّفْيَ وَلَكِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِلْمَصْلَحَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَمَا ذَنْبِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: لَا ذَنْبَ لَك وَإِنَّمَا الذَّنْبُ لِي حَيْثُ لَا أُطَهِّرُ دَارَ الْهِجْرَةِ مِنْك، وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي النَّفْيِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ يَنْفِي إلَى بَلَدٍ غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي فَجَرَ فِيهِ وَلَكِنْ دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَكُونُ النَّفْيُ دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ.
(قَالَ) وَلَا يَكُونُ مُحْصَنًا بِالْجِمَاعِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْوَطْءِ الْحَرَامِ فَلَا يُتِمُّ بِهِ عَلَيْهِ النِّعْمَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute