للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَشَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ قَتَلَ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ فُلَانًا لَمْ تُقْبَلْ وَاحِدَةٌ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ لِتَيَقُّنِ الْقَاضِي بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَا حَدَّ عَلَى شُهُودِ الزِّنَا لِتَكَامُلِ عَدَدِهِمْ وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْأَحْكَامِ مِنْ الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَلَا يُقَالُ لَا تُنْكَرُ كَرَامَةُ الْأَوْلِيَاءِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ بِمَكَّةَ وَالْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْوَلِيِّ لَا يَزْنِي وَلَا يَجْحَدُ مَا فَعَلَهُ وَلِأَنَّا أُمِرْنَا بِبِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمَعْرُوفُ، فَإِنْ حَضَرَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ وَشَهِدُوا فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ شَهِدَ الْآخَرُونَ فَشَهَادَةُ الْآخَرِينَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ ثَبَتَ فِي شَهَادَةِ الْأَوَّلِينَ حِينَ اتَّصَلَ الْحُكْمُ بِهَا فَيَبْقَى الْكَذِبُ فِي شَهَادَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى شُهُودِ الزِّنَا وَإِنْ كَانُوا هُمْ الْفَرِيقَ الثَّانِيَ لِتَكَامُلِ عَدَدِهِمْ

(قَالَ) وَإِذَا ثَبَتَ حَدُّ الزِّنَا عَلَى رَجُلٍ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ وَهُوَ مُحْصَنٌ أَوْ غَيْرُ مُحْصَنٍ، فَلَمَّا أُقِيمَ عَلَيْهِ بَعْضُهُ هَرَبَ فَطَلَبَهُ الشُّرَطُ فَأَخَذُوهُ فِي فَوْرِهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْهُرُوبَ غَيْرُ مُسْقِطٍ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْحَدِّ، وَأَصْلُهُ أَنَّ حَدَّ الزِّنَا لَا يُقَامُ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ عِنْدَنَا وَكَذَلِكَ كُلُّ حَدٍّ هُوَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُقَامُ وَاعْتَبَرَهُ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ مِنْ حَيْثُ إنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ غَيْرُ مُسْقِطٍ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ فَاعْتُبِرَ الْبَيِّنَةُ بِالْإِقْرَارِ فَإِنَّ هَذِهِ الْحُدُودَ تُقَامُ بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ فَكَذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهَا إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ.

(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ: أَيُّمَا قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ فَإِنَّمَا هُمْ شُهُودُ ضِغْنٍ، قَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي حَدِيثِهِ: لَا شَهَادَةَ لَهُمْ، وَالْمُغْنِي أَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ مُخَيَّرٌ فِي الِابْتِدَاءِ بَيْنَ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ أَوْ يَشْهَدَ فَلَمَّا أَخَّرَ الشَّهَادَةَ عَرَفْنَا أَنَّهُ مَالَ إلَى السَّتْرِ ثُمَّ حَمَلَتْهُ الْعَدَاوَةُ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ السَّتْرَ وَيَشْهَدَ عَلَيْهِ فَلَا تَكُونُ هَذِهِ شَهَادَةً بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ لَا تُقْبَلُ إلَّا بِخُصُومَةِ الْمَقْذُوفِ وَطَلَبِهِ الْحَدَّ فَإِنَّمَا أَخَّرُوا أَدَاءَ الشَّهَادَةِ لِعَدَمِ الْخُصُومَةِ مِنْ الْمَقْذُوفِ وَلِأَنَّ فِيهِ بَعْضَ حَقِّ الْعِبَادِ وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ فَمَتَى أَقَامَ الْحُجَّة عَلَيْهِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ.

وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ السَّرِقَةُ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهَا لَا تُقْبَلُ قَبْلَ الْخُصُومَةِ وَلَكِنَّ خُصُومَةَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ هُنَاكَ فِي الْمَالِ لَا فِي الْحَدِّ وَبَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةٌ فِيمَا فِيهِ الْخُصُومَةُ لَهُ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ هُنَاكَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا صَحَّ الرُّجُوعُ فِيهِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ، وَحَدُّ اللَّهِ تَعَالَى أَقْرَبُ إلَى الدَّرْءِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُ خُسْرَانٌ أَوْ ضَرَرٌ وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ، فَإِنَّ مَعْنَى الضَّغِينَةِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْإِقْرَارِ بَعْدَ التَّقَادُمِ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُعَادِي نَفْسَهُ عَلَى وَجْهٍ يَحْمِلُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>