وَكَذَلِكَ لَوْ أَبَانَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ قَذَفَهَا قَبْلَ الْإِبَانَةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا لِعَانَ، وَلَوْ قَذَفَهَا فِي الْحَالِ حُدَّ فَلَمَّا كَانَ حُكْمُ الْإِقْرَارِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْإِنْشَاءِ يَتَحَقَّقُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ، فَأَمَّا حُكْمُ الْقَذْفِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي الشُّهُودِ بِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ
(قَالَ)، وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِحَدِّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ ثُمَّ عَفَى الْمَقْذُوفُ عَنْهُ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ بِعَفْوِهِ عِنْدَنَا وَذَكَرَ ابْنُ عِمْرَانَ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَسْقُطُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ عِنْدَنَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ فَهُوَ فِي حُكْمِ التَّبَعِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُغَلَّبُ حَقُّ الْعَبْدِ وَحُجَّتُهُ لِإِثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ التَّنَاوُلُ مِنْ عِرْضِهِ، وَعِرْضُهُ حَقُّهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَبِي ضَمْضَمٍ إذَا أَصْبَحَ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِك»، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ عَلَى التَّصَدُّقِ بِمَا هُوَ مِنْ حَقِّهِ وَالْمَقْصُودُ دَفْعُ الشَّيْنِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَذَلِكَ حَقُّهُ، وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ حَدُّ الْقَذْفِ يُسْتَوْفَى بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ، وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلِذَلِكَ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِخُصُومَتِهِ، وَإِنَّمَا يُسْتَوْفَى بِخُصُومَتِهِ مَا هُوَ حَقُّهُ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ فَخُصُومَتُهُ هُنَاكَ بِالْمَالِ دُونَ الْحَدِّ، وَيُقَامُ هَذَا الْحَدُّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ الْمُسْتَأْمَنُ بِمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ إلَّا أَنَّ مَنْ لَهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ أَلَمَ الْجَلْدَاتِ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ، فَإِذَا فُوِّضَ إلَى مَنْ لَهُ رُبَّمَا لَا يَقِفُ عَلَى الْحَدِّ لِغَيْظِهِ فَجُعِلَ الِاسْتِيفَاءُ إلَى الْإِمَامِ مُرَاعَاةً لِلنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ بِحَدِّهِ، فَإِذَا جَاوَزَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ذَلِكَ الْحَدَّ يُعْلَمُ ذَلِكَ فَيُمْنَعُ مِنْهُ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْحَدَّ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْإِحْصَانُ فَيَكُونُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَالرَّجْمِ وَتَأْثِيرُ هَذَا الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ زَوَاجِرُ، وَالزَّوَاجِرُ مَشْرُوعَةٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا مَا يَكُونُ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَهُوَ فِي الْأَصْلِ جَائِزٌ فَمَا أُوجِبَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ حَقًّا لِلْعَبْدِ وَجَبَ بِاسْمِ الْقِصَاصِ الَّذِي يُنْبِئُ عَنْ الْمُسَاوَاةِ لِيَكُونَ إشَارَةً إلَى مَعْنَى الْجَبْرِ، وَمَا أُوجِبَ بِاسْمِ الْحَدِّ فَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الِاسْمِ إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى الزَّجْرِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ يُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ وَبِهِ وَرَدَ النَّصُّ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: ١٩٤]، وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ نِسْبَةِ الزِّنَا وَبَيْنَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute