للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُحَقِّقُ تَمْكِينَهَا مِنْهُ جَعَلَ كَلَامَهُ بِمَعْنَى التَّمْكِينِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ احْتِمَالٌ ذَلِكَ جَعَلَ بِمَعْنَى الْبَدَلِ

(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ زَنَيْتَ بِبَعِيرٍ أَوْ بِنَاقَةٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى إتْيَانِ الْبَهِيمَةِ، فَإِنْ قَالَ: بِأَمَةٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ

فَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ الْأَقْطَعِ أَوْ يَا ابْنَ الْمُقْعَدِ أَوْ يَا ابْنَ الْحَجَّامِ وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْهِ حَدٌّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِمِثْلِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ نَفْيُهُ عَنْ أَبِيهِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ وَصْفُ الْأَبِ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ كَمَنْ يَقُولُ لِبَصِيرٍ يَا أَعْمَى أَوْ يُشَبِّهُ بِهِ فِي الْحِرْفَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ يَا ابْنَ الْأَزْرَقِ يَا ابْنَ الْأَصْفَرِ أَوْ الْأَسْوَدِ وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ يَا ابْنَ السِّنْدِيِّ أَوْ يَا ابْنَ الْحَبَشِيِّ لَا يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ بِهَذَا فَالْمَقْصُودُ تَحْقِيرُهُ لَا قَذْفُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ

وَلَوْ قَالَ لَعَرَبِيٍّ يَا عَبْدُ أَوْ يَا مَوْلَى لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ، فَإِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِقَاذِفٍ لَهُ بِقَوْلِهِ يَا مَوْلَى قَالَ تَعَالَى {وَإِنِّي خِفْت الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم: ٥] وَالْمُرَادُ الْوَرَثَةُ وَبَنُو الْأَعْمَامِ

وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَعَرَبِيٍّ: يَا دِهْقَانُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْمَسَائِلِ فَلَفْظُ الدِّهْقَانِ فِينَا لِلْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْقَذْفِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَسْتَنْكِفُونَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، وَلَا يُسَمُّونَ بِهِ إلَّا الْعُلُوجَ فَلِإِزَالَةِ الْإِشْكَالِ ذَكَرَهُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ، فَإِنَّ الدِّهْقَانَ اسْمٌ لِمَنْ لَهُ ضِيَاعٌ وَأَمْلَاكٌ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ لِلْعَرَبِ وَالْعَجَمِ

(قَالَ) وَلَوْ قَالَ: يَا بُنَيَّ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُذْكَرُ عَلَى وَجْهِ اللُّطْفِ دُونَ الْقَذْفِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ يَا أَخِي

وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَنْتَ عَبْدِي أَوْ مَوْلَايَ فَهَذِهِ دَعْوَى الرِّقِّ وَالْوَلَاءُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ مِنْ الْقَذْفِ فِي شَيْءٍ

وَإِنْ قَالَ: يَا يَهُودِيُّ يَا نَصْرَانِيُّ أَوْ يَا مَجُوسِيُّ أَوْ يَا ابْنَ الْيَهُودِيِّ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالْكُفْرِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْقَذْفِ، فَإِنَّهُ لَا يَشِينُ الْمَقْذُوفَ إذَا كَانَ إسْلَامُهُ مَعْلُومًا، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ؛ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْمُسْلِمِ إلَى الْكُفْرِ حَرَامٌ وَبِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ

(قَالَ) وَإِنْ قَالَ: يَا زَانٍ وَأَدْخَلَ فِيهِ الْهَمْزَةَ وَقَالَ: عَنِيت أَنَّهُ يَصْعَدُ عَلَى الْجَبَلِ أَوْ عَلَى شَيْءٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَنِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ لُغَةً بِالْهَمْزَةِ فَذِكْرُ الْهَمْزَةِ يُقَرِّرُهُ، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا

(قَالَ) وَإِنْ قَالَ: زَنَأْت فِي الْجَبَلِ وَقَالَ عَنِيت الصُّعُودَ فِيهِ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: أَهْلُ اللُّغَةِ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا اللَّفْظَ مَهْمُوزًا عِنْدَ ذِكْرِ الْجَبَلِ وَيُرِيدُونَ بِهِ الصُّعُودَ قَالَ الْقَائِلُ:

وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنْئًا فِي الْجَبَلِ

وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ مُشْتَرَكَةً وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ بِمِثْلِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مُطْلَقُ اللَّفْظِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَتَفَاهَمُهُ النَّاسُ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ وَالْعَامَّةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>