لَا مَحَالَةَ.
(فَإِنْ قِيلَ): فَقَدْ قَالَ: أَنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِكُمْ ثُمَّ اُحْكُمُوا فِيهِمْ بِمَا رَأَيْتُمْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُجْتَهِدُ مُصِيبًا لِلْحَقِّ لَمَا أَمَرَ بِإِنْزَالِهِمْ عَلَى حُكْمِنَا فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالْإِنْزَالِ عَلَى الْخَطَأِ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِالْإِنْزَالِ عَلَى الصَّوَابِ.
(قُلْنَا): نَعَمْ، نَحْنُ لَا نَقُولُ الْمُجْتَهِدُ يَكُونُ مُخْطِئًا لَا مَحَالَةَ وَلَكِنَّهُ عَلَى رَجَاءٍ مِنْ الْإِصَابَةِ وَهُوَ آتٍ بِمَا فِي وُسْعِهِ فَلِهَذَا أُمِرَ بِالْإِنْزَالِ عَلَى ذَلِكَ لَا لِأَنَّهُ يَكُونُ مُصِيبًا لِلْحَقِّ بِاجْتِهَادِهِ لَا مَحَالَةَ.
وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْخِلَافِ إذَا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِنَا وَحُكْمُنَا فِيهِمْ بِمَا رَأَيْنَا وَيَتَمَكَّنُ ذَلِكَ إذَا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ فَهَذَا فَائِدَةُ هَذَا اللَّفْظِ.
(قَالَ): وَإِذَا حَاصَرْتُمْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَأَرَادُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ رَسُولِهِ وَلَكِنْ أُعْطُوهُمْ ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ فَإِنَّكُمْ إنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ فَهُوَ أَهْوَنُ وَالْمُرَادُ بِالذِّمَّةِ الْعَهْدُ وَمِنْهُ سُمِّيَ أَهْلُ الذِّمَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: ١٠] أَيْ عَهْدًا فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ اللُّزُومِ وَمِنْهُ سُمِّيَ مَحِلُّ الِالْتِزَامِ مِنْ الْآدَمِيِّ ذِمَّةٌ وَالِالْتِزَامُ بِالْعَهْدِ يَكُونُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعْطُوا الْمُشْرِكِينَ عَهْدَ اللَّهِ وَلَا عَهْدَ رَسُولِهِ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا يَحْتَاجُونَ إلَى النَّبْذِ إلَيْهِمْ وَنَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ وَعَهْدِ رَسُولِهِ لَا يَحِلُّ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَلَكِنْ أَعْطُوهُمْ ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ يَعْنِي: عَهْدَكُمْ وَعَهْدَ آبَائِكُمْ مِنْ الْمُمَالَحَةِ وَالصُّحْبَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَ الْحُرْمَةَ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّكُمْ إنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ فَهُوَ أَهْوَنُ أَيْ تَنْقُضُوا يُقَالُ: أَخْفَرَ إذَا نَقَضَ الْعَهْدَ، وَخَفَرَ أَيْ عَاهَدَ وَمِنْهُ الْخَفِيرُ وَهُوَ الَّذِي يَسِيرُ النَّاسُ فِي أَمَانِهِ سُمِّيَ خَفِيرًا لِلْمُعَاهَدَةِ مَعَ الَّذِينَ فِي أَمَانِهِ أَوْ مَعَ الَّذِينَ يَتَعَرَّضُونَ لِلنَّاسِ فِي أَنْ لَا يَقْصِدُوا مَنْ كَانَ فِي أَمَانِهِ وَهَذَا بَيَانُ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْخُمُسَ كَانَ يُقَسَّمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ فَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ سَهْمٌ وَلِذِي الْقُرْبَى سَهْمٌ وَلِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ وَلِلْيَتَامَى سَهْمٌ وَلِابْنِ السَّبِيلِ سَهْمٌ ثُمَّ قَسَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمُرَادُهُ بَيَانُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: ٤١] وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ: سَهْمُ اللَّهِ وَسَهْمُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدٌ وَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّبَرُّكِ وَمِفْتَاحُ الْكَلَامِ وَكَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ يَقُولُ: الْغَنِيمَةُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَيُصْرَفُ ذَلِكَ إلَى عِمَارَةِ الْكَعْبَةِ إنْ كَانَتْ الْكَعْبَةُ بِالْقُرْبِ مِنْهَا وَإِلَى عِمَارَةِ الْجَامِعِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ هِيَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَوْضِعِ الْقِسْمَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْبِقَاعَ مُضَافَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا السَّهْمُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيُصْرَفُ إلَى عِمَارَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute