قَالَ: «لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ» وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ ذِمِّيًّا طُولِبَ بِالْجِزْيَةِ فَأَسْلَمَ فَقِيلَ لَهُ: إنَّك أَسْلَمْت تَعَوُّذًا فَقَالَ: إنْ أَسْلَمْت تَعَوُّذًا فَفِي الْإِسْلَامِ لَمُتَعَوَّذٍ فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ فَقَالَ: صَدَقَ فَأَمَرَ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِ وَالْمَعْنَى فِيهِ مَا قَرَرْنَا أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ لَا بِطَرِيقِ الدُّيُونِ وَعُقُوبَاتُ الْكُفْرِ تَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ كَالْقَتْلِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ نَظِيرُ الْقَتْلِ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْوُجُوبِ عَلَيْهِ مَنْ يَقْتُلُ عَلَى كُفْرِهِ حَتَّى لَا يُوجِبُ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَبِهِ فَارَقَ خَرَاجَ الْأَرَاضِي وَالِاسْتِرْقَاقِ مَعَ أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ عُقُوبَةٌ مِنْ حَيْثُ تَبْدِيلُ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْمَمْلُوكِيَّةِ وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ حِينَ اُسْتُرِقَّ فَهُوَ عُقُوبَةٌ مُسْتَوْفَاةٌ وَوِزَانُهَا جِزْيَةٌ اُسْتُوْفِيَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ هَذَا الْمَالُ خَلَفٌ عَنْ النُّصْرَةِ كَمَا بَيَّنَّا وَإِذَا أَسْلَمَ فَقَدْ صَارَ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ فَيَسْقُطُ مَا هُوَ خَلَفٌ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلْخَلَفِ بَعْدَ وُجُودِ الْأَصْلِ وَلِأَنَّ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الصَّغَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: ٢٩] وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ مِنْهُ لَوْ بَعَثَهَا عَلَى يَدِ نَائِبِهِ بَلْ يُكَلَّفُ بِأَنْ يَأْتِيَ بِهِ بِنَفْسِهِ فَيُعْطِي قَائِمًا وَالْقَابِضُ مِنْهُ قَاعِدٌ وَفِي رِوَايَةٍ يَأْخُذُ بِتَلْبِيبِهِ فَيَهُزُّهُ هَزًّا وَيَقُولُ: أَعْطِ الْجِزْيَةَ يَا ذِمِّيُّ وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ بِطَرِيقِ الصَّغَارِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يُوَقَّرُ لِإِيمَانِهِ وَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ امْتَنَعَ الِاسْتِيفَاءُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ غَيْرَ الْوَاجِبِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ اسْتِيفَاءُ الْوَاجِبِ إذَا اُسْتُوْفِيَ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَجَبَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَهْلَكَ النِّصَابَ فِي مَالِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ وَبَعْدَمَا افْتَقَرَ يَسْتَوْفِي بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ أَيْضًا حَتَّى لَوْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ بِأَنْ ارْتَدَّ نَقُولُ بِأَنَّهُ لَا يُبْقِي وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجِزْيَةَ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ وَلَا بَدَلٍ عَنْ السُّكْنَى وَلَا بَدَلٍ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا لَهُ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ عَنْ الْحَقْنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِيمَا مَضَى وَقَدْ اسْتَفَادَ الْحَقْنَ بِالْإِسْلَامِ فَلَا مَعْنَى لِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ مَاتَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ عِنْدَنَا لَا يَسْتَوْفِي الْجِزْيَةَ مِنْ تَرِكَتِهِ وَعِنْدَهُ يَسْتَوْفِي اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الدُّيُونِ.
وَطَرِيقُنَا مَا قَرَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِأَنَّ هَذِهِ صِلَةٌ وَالصِّلَاتُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَتَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ كَالنَّفَقَاتِ وَدَلِيلُ أَنَّهَا صِلَةً مَا بَيَّنَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِبَدَلٍ عَنْ السُّكْنَى لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَإِنَّمَا يَسْكُنُ دَارَ نَفْسِهِ وَلَا يَسْكُنُ مِلْكَ نَفْسِهِ حَقِيقَةً وَقَوْلُنَا دَارُ الْإِسْلَامِ نِسْبَةٌ لِلْوِلَايَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِاعْتِبَارِهِ الْأُجْرَةَ وَلَا هُوَ بَدَلٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ فِي الْأَصْلِ مَحْقُونُ الدَّمِ وَالْإِبَاحَةُ بِعَارِضِ الْقِتَالِ فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ عَادَ الْحَقْنُ الْأَصْلِيُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute