للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ لَاقَى تَصَرُّفُهُ مِلْكَهُ فَيَنْفُذُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ التَّصَرُّفَ قَوْلٌ، وَالْأَهْلِيَّةُ لَهُ بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ شَرْعًا، وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِالرِّدَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ، وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِالرِّدَّةِ إنَّمَا تَأْثِيرُ رِدَّتِهِ فِي إبَاحَةِ دَمِهِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْمَالِكِيَّةِ كَالْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ الرِّدَّةِ نَافِذٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَحَالُ الْحُرِّ فِي التَّصَرُّفِ فَوْقَ حَالِ الْمُكَاتَبِ، فَإِذَا كَانَتْ الرِّدَّةُ لَا تُنَافِي مِلْكَ الْيَدِ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ تَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ، فَلَأَنْ لَا يُنَافِي مِلْكَ الْحُرِّ وَتَصَرُّفَهُ أَوْلَى إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: هُوَ مُشْرِفٌ عَلَى الْهَلَاكِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ فِي التَّصَرُّفِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ زَوْجَتَهُ تَرِثُهُ بِحُكْمِ الْفِرَارِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْمَرِيضِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِسَبَبٍ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ مَرْغُوبٍ فِيهِ فَلَا يَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمَرِيضِ، كَمَنْ قَصَدَ أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ لَا يَصِيرُ بِهِ فِي حُكْمِ الْمَرِيضِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِيرُ كَالْمَرِيضِ مَا دَامَ فِي السِّجْنِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِادِّعَاءِ شُبْهَةٍ فَالْمُرْتَدُّ أَوْلَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: بِالرِّدَّةِ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ الْمَالِ، وَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى الْعَوْدِ إلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ، وَتَصَرُّفُهُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ فَيَتَوَقَّفُ بِتَوَقُّفِ الْمِلْكِ، وَدَلِيلُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ الْعِصْمَةِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ عِصْمَةَ النَّفْسِ وَالْمَالِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ عِصْمَةُ نَفْسِهِ تَزُولُ بِالرِّدَّةِ حَتَّى يُقْتَلَ، فَكَذَلِكَ عِصْمَةُ مَالِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ هَالِكٌ حُكْمًا، وَإِذَا كَانَ الْهَلَاكُ حَقِيقَةً يُنَافِي مَالِكِيَّةَ الْمَالِ، وَلَا يُنَافِي تَوَقُّفَ الْمَالِ عَلَى حَقِّهِ، كَالتَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ، فَكَذَلِكَ الْهَلَاكُ الْحُكْمِيُّ، وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ الرِّدَّةِ فِي نَفْيِ الْمَالِكِيَّةِ فَوْقَ تَأْثِيرِ الرِّقِّ، فَإِنَّ الرِّقَّ يُنَافِي مَالِكِيَّةَ الْمَالِ، وَلَا يُنَافِي مَالِكِيَّةَ النِّكَاحِ، وَالرِّدَّةُ تُنَافِيهِمَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ وَالرَّجْمِ، فَهُنَاكَ لَمْ يَزُلْ مَا بِهِ عِصْمَةُ الْمَالِ وَالنَّفْسِ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ نَفْسَهُ بِمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ تِلْكَ الْعِصْمَةِ فَيَبْقَى مَالِكًا حَقِيقَةً لِبَقَاءِ عِصْمَةِ مَالِهِ، وَقَدْ انْعَدَمَ هَهُنَا مَا بِهِ كَانَتْ الْعِصْمَةُ فِي حَقِّ النَّفْسِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ فِي الْعِصْمَةِ، وَبِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ بِاعْتِبَارِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَالرِّدَّةِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الْهَلَاكَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْكِتَابَةِ فَالْهَلَاكُ الْحُكْمِيُّ أَوْلَى، وَلِهَذَا نَفَذَ تَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ لِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَهَهُنَا بِالِاتِّفَاقِ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ بَعْدَ لِحَاقِهِ بَلْ يَتَوَقَّفُ فَكَذَلِكَ قَبْلَ لِحَاقِهِ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ بِرِدَّتِهِ لَا بِلِحَاقِهِ، وَكَذَلِكَ التَّوْرِيثُ بِاعْتِبَارِ رِدَّتِهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا

<<  <  ج: ص:  >  >>