للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَصِفَ كَمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَلِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي الدُّنْيَا تَنْبِي عَلَى قَوْلِهِ، وَقَوْلُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ إقْرَارًا أَوْ شَهَادَةً، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الشَّرْعِ كَسَائِرِ الْأَقَارِيرِ، وَالشَّهَادَاتِ، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ إذَا كَانَ مُعْتَقِدًا لِمَا يَقُولُ: فَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ لَهُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ مَا لِلْمُسْلِمِينَ.

(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا»، وَقَدْ أَعْرَبَ هُنَا لِسَانُهُ شَاكِرًا شَكُورًا فَلَا نَجْعَلُهُ كَافِرًا كَفُورًا، وَأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَسْلَمَ وَهُوَ صَبِيٌّ، وَحَسُنَ إسْلَامُهُ حَتَّى افْتَخَرَ بِهِ فِي شِعْرِهِ قَالَ:

سَبَقْتُكُمْ إلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا ... غُلَامًا مَا بَلَغْتُ أَوَانَ حُلُمِي

، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي سِنِّهِ حِينَ أَسْلَمَ، وَحِينَ مَاتَ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَسْلَمَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ فِي أَوَّلِ مَبْعَثِهِ، وَمُدَّةُ الْبَعْثِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَالْخِلَافَةُ بَعْدَهُ ثَلَاثُونَ انْتَهَى بِمَوْتِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِذَا ضَمَمْتَ خَمْسًا إلَى ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ، وَقَالَ الْعُتَيْبِيُّ: أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً بِهَذَا الطَّرِيقِ أَيْضًا، وَقَالَ الْجَاحِظُ: أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ كَالْبَالِغِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْإِسْلَامَ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ، وَاقَرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاعْتِقَادِ، وَمَنْ رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَقِدًا لِلتَّوْحِيدِ قَبْلَ بُلُوغِهِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ اعْتِقَادِ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ، وَمِنْ أَهْلِ مَعْرِفَةِ أَبَوَيْهِ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِمَا إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ، فَعَرَفْنَا ضَرُورَةَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ مَعْرِفَةِ خَالِقِهِ، وَقَدْ سَمِعْنَا إقْرَارَهُ بِعِبَارَةٍ مَفْهُومَةٍ، وَنَحْنُ نَرَى صَبِيًّا يُنَاظِرُ فِي الدِّينِ، وَيُقِيمُ الْحُجَجَ الظَّاهِرَةَ حَتَّى إذَا نَاظَرَ الْمُوَحِّدِينَ أَفْهَمَ، وَإِذَا نَاظَرَ الْمُلْحِدِينَ أَفْحَمَ، فَلَا يُظَنُّ بِعَاقِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ أَنَّهُ يُجْعَلُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِغَيْرِهِ، وَبِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ مَعَ الصِّبَا أَهْلٌ لِلرِّسَالَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: ١٢] فَعُلِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْإِسْلَامِ ثُمَّ بَعْدَ وُجُودِ الشَّيْءِ حَقِيقَةً أَنَّهُ أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُهُ بِحَجْرٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يُظَنُّ ذَلِكَ هَهُنَا، وَالنَّاسُ عَنْ آخِرِهِمْ دُعُوا إلَى الْإِسْلَامِ، وَالْحَجْرُ عَنْ الْإِسْلَامِ كُفْرٌ أَوَّلًا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ لِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ، وَلَا تَصَوُّرَ لِذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فَيَكُونُ مَحْضَ مَنْفَعَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ حُرِّمَ مِيرَاثُ مُوَرِّثِهِ الْكَافِرِ أَوْ بَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ الْكَافِرَةُ، فَإِنَّمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>