لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ دَفْعًا لِقِتَالِهِمْ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا مَعْنَاهُ حَتَّى تَعْزِمُوا عَلَى الْقِتَالِ بِالتَّجَمُّعِ وَالتَّحَيُّزِ عَنْ أَهْلِ الْعَدْلِ.
(قَالَ) وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ لَا تَتْبَعُوا مُدْبِرًا، وَلَا تَقْتُلُوا أَسِيرًا، وَلَا تُدَفِّفُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ، وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ، وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: إذَا قَاتَلَ أَهْلُ الْعَدْلِ أَهْلَ الْبَغْيِ فَهَزَمُوهُمْ فَلَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَتْبَعُوا مُدْبِرًا؛ لِأَنَّا قَاتَلْنَاهُمْ لِقَطْعِ بَغْيِهِمْ، وَقَدْ انْدَفَعَ حِينَ وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ يَرْجِعُونَ إلَيْهَا، فَإِنَّ بَقِيَ لَهُمْ فِئَةٌ، فَإِنَّهُ يُتْبَعُ مُدْبِرُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَا تَرَكُوا قَصْدَهُمْ لِهَذَا حِينَ وَلَّوْا مِنْهُمْ مُنْهَزِمِينَ بَلْ تَحَيَّزُوا إلَى فِئَتِهِمْ لِيَعُودُوا فَيُتْبَعُونَ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا يُتْبَعُ الْمُدْبِرُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِبَقَاءِ الْفِئَةِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ لَا يَقْتُلُونَ الْأَسِيرَ إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ، وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَحْلِفُ مَنْ يُؤْسَرُ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَلَيْهِ قَطُّ ثُمَّ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ فِئَةٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقْتَلَ أَسِيرُهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَا انْدَفَعَ شَرُّهُ، وَلَكِنَّهُ مَقْهُورٌ، وَلَوْ تَخَلَّصَ انْحَازَ إلَى فِئَتِهِ، فَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي قَتْلِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُ، وَكَذَلِكَ لَا يُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَرِئَ عَادَ إلَى تِلْكَ الْفِتْنَةِ وَالشَّرِّ بِقُوَّةِ تِلْكَ الْفِئَةِ، وَلِأَنَّ فِي قَتْلِ الْأَسِيرِ وَالتَّجْهِيزِ عَلَى الْجَرِيحِ كَسْرُ شَوْكَةِ أَصْحَابِهِ، فَإِذَا بَقِيَتْ لَهُمْ فِئَةٌ فَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ، وَقَوْلُهُ لَا يُكْشَفُ سِتْرٌ قِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يُسْبَى الذَّرَارِيُّ، وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ عَلَى سَبِيلِ التَّمَلُّكِ بِطَرِيقِ الِاغْتِنَامِ، وَبِهِ نَقُولُ لَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَلَا يُتَمَلَّكُ أَمْوَالُهُمْ لِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ فِيهَا بِكَوْنِهَا مُحْرَزَةً بِدَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ التَّمَلُّكَ بِالْقَهْرِ يَخُصُّ بِمَحَلٍّ لَيْسَ فِيهِ عِصْمَةُ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ.
(قَالَ) وَمَا أَصَابَ أَهْلُ الْعَدْلِ مِنْ كُرَاعِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَسِلَاحِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ احْتَاجُوا إلَى سِلَاحِ أَهْلِ الْعَدْلِ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، وَقَدْ «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صَفْوَانَ دُرُوعًا فِي حَرْبِ هَوَازِنَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَاهُ حَيْثُ قَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ»، فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي سِلَاحِ مَنْ لَا يُقَاتِلُ فَفِي سِلَاحِ مَنْ يُقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ أَوْلَى، فَإِذَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا رُدَّ جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِزَوَالِ الْحَاجَةِ، وَكَذَلِكَ مَا أُصِيبَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يُرَدُّ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَمَلَّكْ ذَلِكَ الْمَالُ عَلَيْهِمْ لِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ وَالْإِحْرَازِ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يَتِمَّ، وَتَمَامُهُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارٍ تُخَالِفُ دَارَ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ بَيْنَ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ دَارَ الْفِئَتَيْنِ وَاحِدَةٌ.
(قَالَ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute