فِي حَقِّهِمْ بِالْمُحَاجَّةِ وَالْإِلْزَامِ بِالدَّلِيلِ، فَلَا يُعْتَبَرُ تَأْوِيلُهُمْ الْبَاطِلُ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ، فَأَمَّا بَعْدَ مَا صَارَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ فَقَدْ انْقَطَعَ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِالدَّلِيلِ حِسًّا فَيُعْتَبَرُ تَأْوِيلُهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْهُمْ كَتَأْوِيلِ أَهْلِ الْحَرْبِ بَعْدَ مَا أَسْلَمُوا، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ قَالَ: وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا مُتَوَافِرِينَ فَأَنْفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَكُلَّ فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَكُلَّ مَالٍ أُتْلِفَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَمَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي أَيْدِيهمْ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوا ذَلِكَ بِالْأَخْذِ كَمَا أَنَّا لَا نَمْلِكُ عَلَيْهِمْ مَا لَهُمْ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ الْمُتَقَاتِلَتَيْنِ بِتَأْوِيلِ الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ أَصْلٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: أُفْتِيهِمْ إذَا تَابُوا بِأَنْ يَضْمَنُوا مَا أَتْلَفُوا مِنْ النُّفُوسِ، وَالْأَمْوَالِ، وَلَا أُلْزِمُهُمْ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ وَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ الْإِسْلَامَ، وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ فِي التَّأْوِيلِ إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ كَانَ مُنْقَطِعًا لِلْمَنَعَةِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَدَاءِ الضَّمَانِ فِي الْحُكْمِ، وَلَكِنْ يُفْتَى بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَلَا يُفْتِي أَهْلُ الْعَدْلِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي قِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ مُمْتَثِلُونَ لِلْأَمْرِ.
وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَدْ اسْتَعَانُوا بِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى حَرْبِهِمْ فَقَاتَلُوا مَعَهُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ لَيْسَ بِنَقْضٍ لِلْإِيمَانِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، وَهَذَا لِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ مُسْلِمُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الطَّائِفَتَيْنِ بِاسْمِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: ٩] وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا، فَاَلَّذِينَ انْضَمُّوا إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُلْتَزِمِينَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلِهَذَا لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ فِيمَا أَصَابُوا فِي الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا تَحْتَ رَايَةِ الْبُغَاةِ فَحُكْمُهُمْ فِيمَا فَعَلُوا كَحُكْمِ الْبُغَاةِ.
وَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ إذَا لَقُوا أَهْلَ الْبَغْيِ أَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى الْعَدْلِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ بَعَثَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلَى أَهْلِ حَرُورَاءَ حَتَّى نَاظَرَهُمْ، وَدَعَاهُمْ إلَى التَّوْبَةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ رُبَّمَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ بِالْوَعْظِ وَالْإِنْذَارِ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَدَّمَ ذَلِكَ عَلَى الْقِتَالِ؛ لِأَنَّ الْكَيَّ آخِرُ الدَّوَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا مَا يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ فَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَحَالِ الْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ، وَلِهَذَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ بِكُلِّ مَا يَجُوزُ الْقِتَالُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَالرَّمْيِ بِالنَّبْلِ، وَالْمَنْجَنِيقِ، وَارِسَالِ الْمَاءِ، وَالنَّارِ عَلَيْهِمْ، وَالْبَيَاتِ بِاللَّيْلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute