لَيْسَ بِتِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ فَيَكُونُ أَكْلًا بِالْبَاطِلِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْغَصْبَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ بِوَجْهٍ مَا، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ كَالْقَتْلِ. وَتَأْثِيرُهُ مَا قُلْنَا: أَنَّ الْمِلْكَ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ فَيَسْتَدْعِي سَبَبًا مَشْرُوعًا، وَالْعُدْوَانُ الْمَحْضُ ضِدُّ الْمَشْرُوعِ، فَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْمَشْرُوعِ أَنْ يَكُونَ مَرْضِيًّا بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُبَاحًا، وَالْعُدْوَانُ الْمَحْضُ ضِدُّهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ الْمِلْكَ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ جُبْرَانٍ فَيَكُونُ بِمُقَابَلَةِ الْفَائِتِ بِالْغَصْبِ، وَالْفَائِتُ بِالْغَصْبِ يَدُ الْمَالِكِ لَا مِلْكُهُ.
فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ بِمُقَابَلَةِ النُّقْصَانِ الَّذِي حَلَّ بِيَدِ الْغَاصِبِ لَا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ؛ وَلِهَذَا قُلْتُمْ: لَوْ هَشَّمَ قُلْبَ فِضَّةٍ لِإِنْسَانٍ، وَقَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ، ثُمَّ افْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ لَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ، وَلَوْ كَانَ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ كَانَ صَرْفًا فَيَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ، فَلَا يَكُونُ الْجُبْرَانُ بِتَفْوِيتِ مَا هُوَ قَائِمٌ بَلْ هُوَ بِإِحْيَاءِ مَا هُوَ فَائِتٌ، وَمِلْكُهُ فِي الْعَيْنِ كَانَ قَائِمًا، فَلَوْ جَعَلْنَاهُ زَائِلًا بِالْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ لَهُ كَانَ هَذَا تَفْوِيتًا لَا جُبْرَانًا، وَلَا كَانَتْ الْقِيمَةُ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ فَهُوَ حَلِفٌ يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَلِفِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ عِنْدَ ظُهُورِ الْعَيْنِ كَمَا لَوْ قَلَعَ سِنَّ إنْسَانٍ فَاسْتُوْفِيَ بِهِ حَوْلًا كَامِلًا، ثُمَّ قَضَى لَهُ بِالْأَرْشِ فَقَبَضَ، ثُمَّ نَبَتَ سِنُّهُ يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْأَرْشِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَاعْتِمَادُهُمْ عَلَى فَصْلِ الْمُدَبَّرِ، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ جَمِيعُ مَا قُلْنَا، فَإِنَّ الْغَصْبَ يَتَحَقَّقُ فِي الْمُدَبَّرِ، وَسَبَبُ الْمِلْكِ عِنْدَكُمْ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُدَبَّرِ، وَبِقَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ لَا يَزُولُ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ شَرْطُ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ انْعِدَامَ مِلْكِهِ فِي الْعَيْنِ أَوْ كَانَتْ الْعَيْنُ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ لَمَا قَضَى الْقَاضِي بِهَا فِي مَحَلٍّ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ هَذَا الشَّرْطُ، وَإِنْ تَمَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي يَنْبَغِي أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْ الْمُدَبَّرِ، كَمَا لَوْ قَضَى بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ «قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشَّاةِ الْمَغْصُوبَةِ الْمَصْلِيَّةِ: أَطْعِمُوهَا الْأَسَارَى» فَقَدْ أَمَرَهُمْ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا، وَلَوْ لَمْ يَمْلِكُوهَا لَمَا أَمَرَهُمْ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ إذَا كَانَ مَالِكُهُ مَعْلُومًا لَا يَجُوزُ، وَلَكِنْ يُحْفَظُ عَلَيْهِ عَيْنُ مِلْكِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ يُبَاعُ، وَيُحْفَظُ عَلَيْهِ ثَمَنُهُ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ مُخْتَصٌّ بِمَحِلٍّ هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ بِهِ إذَا أَمْكَنَ كَالْبَيْعِ وَالصُّلْحِ.
وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ غَصْبَ الْحُرِّ لَا يَتَحَقَّقُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَذَلِكَ غَصْبُ الْخَمْرِ مِنْ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ اخْتِصَاصَ السَّبَبِ بِمَحِلٍّ لَا يَكُونُ إلَّا لِاخْتِصَاصِهِ بِحُكْمٍ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْمَحِلِّ، فَالْمَحِلُّ الَّذِي هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يَخْتَصُّ بِصِحَّةِ التَّمْلِيكِ فِيهِ، فَلَمَّا اخْتَصَّ الْغَصْبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ بِهِ عَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا اخْتَصَّ بِهَذَا الْحُكْمِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الَّذِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute