غَيْرُهُ كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُسْتَهْلِكَ وَيُعْطِيَ الْغَاصِبَ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ.
(وَالثَّانِي) وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ الْجِلْدُ مَضْمُونَ الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهَا بِاسْتِهْلَاكِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَوَّتَ مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ، وَالتَّفْوِيتُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، وَبِهِ فَارَقَ مَا لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ، فَإِنَّ التَّفْوِيتَ مِنْهُ لَمْ يُوجَدْ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُسْتَعَارِ إذَا فَوَّتَ الْمُسْتَعِيرُ رَدَّهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا فَاتَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ أَوْ جَعَلَ الْخَمْرَ خَلًّا، فَلَا يَضْمَنُ إذَا فَوَّتَ الرَّدَّ بِالِاسْتِهْلَاكِ، وَلَا يَضْمَنُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ اسْتَفَادَ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ فِي هَذَا الْجِلْدِ مِنْ الْغَاصِبِ بِبَدَلٍ اسْتَوْجَبَهُ الْغَاصِبُ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ شَيْئًا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ قَبْلَ الِاتِّصَالِ بِالْجِلْدِ، وَبَعْدَ الِاتِّصَالِ بَقِيَ حَقًّا لَهُ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ لِيَسْتَوْفِيَ بَدَلَهُ، وَالْجِلْدُ بِدُونِ هَذَا الْوَصْفِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالِاسْتِهْلَاكِ كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَبِهِ فَارَقَ الثَّوْبَ، فَإِنَّ الِاسْتِهْلَاكَ فِيهِ بِدُونِ صِفَةِ الصَّبْغِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، وَبِهِ فَارَقَ مَا إذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ مَا بَقِيَتْ حَقًّا لِلْغَاصِبِ بَعْدَ الِاتِّصَالِ بِالْجِلْدِ؛ وَلِهَذَا لَا يَحْبِسُهُ، وَلَا يَرْجِعُ بِبَدَلِهِ، وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ إذَا خَلَّلَهُ.
(وَالثَّانِي) أَنَّ مَا اتَّصَلَ بِالْجِلْدِ مِنْ الصِّفَةِ هُنَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لِلْغَاصِبِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَهُوَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَدْ كَانَ مَالًا قَبْلَ الِاتِّصَالِ بِالْجِلْدِ، وَبَقِيَ بَعْدَهُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا أَصْلُ الْجِلْدِ لَمْ يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَمَا كَانَ مَالًا بِنَفْسِهِ وَمُتَّصِلًا بِغَيْرِهِ يَتَرَجَّحُ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ مَالًا قَبْلَ الِاتِّصَالِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَالًا بِالِاتِّصَالِ فَتَكُونُ الْعِبْرَةُ لِلرَّاجِحِ وَاسْتِهْلَاكُهُ فِيهِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُنَاكَ كَانَ مَالًا قَبْلَ الِاتِّصَالِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَالًا بِالِاتِّصَالِ، وَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي صِفَةِ الْمَالِيَّةِ رَجَّحْنَا مَا هُوَ الْأَصْلُ. وَإِذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ فَالْوَصْفُ لَيْسَ بِمَالٍ قَبْلَ الِاتِّصَالِ وَلَا بَعْدَهُ، وَالْأَصْلُ مَالٌ بَعْدَ الِاتِّصَالِ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْأَصْلِ لِهَذَا، وَلَا يُقَالُ فِي حَالِ بَقَاءِ الْجِلْدِ رَجَّحْنَا حَقَّ صَاحِبِ الْأَصْلِ حَتَّى مَكَّنَّاهُ مِنْ أَخْذِهِ. وَيُمْلَكُ الْوَصْفُ عَلَى الْغَاصِبِ بِعِوَضٍ، وَهَذَا لِأَنَّ أَخْذَ الْعَيْنِ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ دُونَ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِرْدَادِهِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَفِي حُكْمِ الْمِلْكِ الْأَصْلُ مُرَجَّحٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ قَبْلَ الِاتِّصَالِ وَبَعْدَهُ، فَأَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ عِنْدَ الِاسْتِهْلَاكِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ، وَصِفَةُ الدِّبَاغِ فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ يَتَرَجَّحُ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute