يَفُوتُ مُوجَبُ الْعَقْدِ، إمَّا لِتَرْكِهِ الْحِفْظَ أَصْلًا، أَوْ لَتَرْكِهِ الْحِفْظَ لِلْمَالِكِ حِينَ حَفِظَهَا لِنَفْسِهِ؛ فَلَا يَبْقَى الْعَقْدُ بَعْدَ فَوَاتِ مُوجَبِهِ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَأْتَمِنُ الْأَمِينَ عَلَى مَالِهِ - دُونَ الْخَائِنِ - وَمُطْلَقُ الْعَقْدِ يَتَقَيَّدُ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ - كَالشِّرَاءِ بِمُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ يَتَقَيَّدُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ - وَإِذَا تَقَيَّدَ الْعَقْدُ بِمَا قَبْلَ الْخِلَافِ: لَا يَبْقَى بَعْدَهُ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْإِيدَاعَ مُطْلَقٌ فَكَانَ بَاقِيًا بَعْدَ الْخِلَافِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ قَالَ: احْفَظْ مَالِي، أَوْ قَالَ: احْفَظْهُ أَبَدًا. وَلَا يَشْكُلُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الْحِفْظَ قَبْلَ الْخِلَافِ وَبَعْدَهُ، ثُمَّ لَمْ يَبْطُلْ بِالْخِلَافِ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ مَوْضِعٌ لِإِبْطَالِهِ، أَوْ بِمَا يُنَافِيهِ، وَالِاسْتِعْمَالُ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِإِبْطَالِ الْإِيدَاعِ، وَهُوَ لَا يُنَافِيهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحِفْظِ مَعَ الِاسْتِعْمَالِ صَحِيحٌ - ابْتِدَاءً - بِأَنْ يَقُولَ لِلْغَاصِبِ: أَوْدَعْتُك، وَهُوَ مُسْتَعْمِلٌ لَهُ، وَالْخِلَافُ لَيْسَ يَرِدُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَوْلٌ، وَرَدُّ الْقَوْلِ بِقَوْلٍ مِثْلِهِ، وَلِأَنَّ الْخِلَافَ يَكُونُ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُودَعِ، وَلَوْ قَالَ: رَدَدْت الْأَمْرَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: لَمْ يَرْتَدَّ. وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حِفْظِ الْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ مَا يُوجِبُهُ، وَلَيْسَ بِتَصَرُّفٍ فِي الْأَمْرِ وَصِحَّةِ الْأَمْرِ، كَأَنْ يَكُونَ الْآمِرُ أَهْلًا لَهُ. وَكَوْنُ الْحِفْظِ مَقْصُودًا مِنْ الْمَأْمُورِ، وَلَمْ يَنْعَدِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ - بِخِلَافِ الْجُحُودِ - فَإِنَّهُ رَدٌّ لِلْأَمْرِ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْجَاحِدَ يَكُونُ مُتَمَلِّكًا لِلْعَيْنِ. وَالْمَالِكُ فِي مِلْكِهِ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِالْحِفْظِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَوَامِرُ الشَّرْعِ، فَالْجُحُودُ فِيهَا رَدٌّ، وَالْخِلَافُ لَا يَكُونُ رَدًّا، حَتَّى لَوْ تَرَكَ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً: لَمْ يُكَفَّرْ.
(وَكَذَلِكَ) فِي أَوَامِرِ الْعِبَادِ إذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَيْنٍ بِأَلْفٍ، فَبَاعَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَسَلَّمَ: لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ مَعَ تَحَقُّقِ الْخِلَافِ، وَمَعَ أَنَّ الْوَكَالَةَ جَائِزَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ - كَالْإِيدَاعِ -. وَعُذْرُهُ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَسْتَغْرِقُ الْمُدَّةَ، فَالْأَمْرُ بِهِ لَا يَبْطُلُ بِالْخِلَافِ، وَالْحِفْظُ يَسْتَغْرِقُ الْمُدَّةَ، فَيَبْطُلُ الْأَمْرُ بِهِ إذَا خَالَفَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ هُنَا وَهُنَاكَ حَتَّى يَصِيرَ ضَامِنًا، وَيَشْكُلُ بِالِاسْتِئْجَارِ لِلْحِفْظِ، فَإِنَّهُ يَسْتَغْرِقُ الْمُدَّةَ ثُمَّ لَا يَبْطُلُ بِالْخِلَافِ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ. وَعُذْرُهُ عَنْ الْإِجَارَةِ أَنَّهَا لَازِمَةٌ حَتَّى لَا يَبْطُلَ بِالْجُحُودِ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْعَقْدِ " عِنْدَهُ " بِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَاللَّازِمُ وَغَيْرُ اللَّازِمِ فِيهِ سَوَاءٌ. إنَّمَا يَفْتَرِقُ اللَّازِمُ وَغَيْرُ اللَّازِمِ فِيمَا هُوَ رَدٌّ، ثُمَّ فِي الِاسْتِئْجَارِ الْعَقْدُ وَرَدَ عَلَى مَنْفَعَةِ الْحَافِظِ فِي الْمُدَّةِ، وَالْمَنْفَعَةُ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَبِتَرْكِ الْحِفْظِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَيَكُونُ بَاقِيًا فِيمَا وَرَاءَهُ كَبَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْحِفْظِ بِغَيْرِ بَدَلٍ.
فَأَمَّا اسْتِئْجَارُ الدَّابَّةِ إلَى مَكَان فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إنْ اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا وَجَائِيًا يَبْرَأْ عَنْ الضَّمَانِ بِالْعَوْدِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَيَصِيرُ ضَامِنًا بِالْمُجَاوَزَةِ لِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ، ثُمَّ بِالْعَوْدِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ: لَا يَعُودُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ سَلَّمْنَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute