للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَنْفَقَهَا فِي حَيَاةِ الْمَيِّتِ. وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ؛ فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - " وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ " هُوَ عَلَيْهِ خَاصَّةً. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ إذَا وَجَبَ عَلَى أَحَدِهِمَا ضَمَانٌ بِغَصْبٍ أَوْ اسْتِهْلَاكِ مَالٍ: " فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " هَذَا نَظِيرُ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِسَبَبٍ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ، وَلِأَنَّهُ بَدَلُ الْمُسْتَهْلَكِ، وَالْمُسْتَهْلَكُ لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ. وَهُمَا قَالَا: ضَمَانُ الْغَصْبِ الِاسْتِهْلَاكُ ضَمَانُ تِجَارَةٍ بِدَلِيلِ صِحَّةِ إقْرَارِ الْمَأْذُونِ بِهِ وَكَوْنِهِ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي الْحَالِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ بَدَلُ مَالٍ مُحْتَمِلٍ لِلشَّرِكَةِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِأَصْلِ السَّبَبِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ، وَلِهَذَا مِلْكُ الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ بِالضَّمَانِ.

قَالَ: (وَإِذَا أَوْدَعَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مِنْ مَالِهِمَا وَدِيعَةً عِنْدَ رَجُلٍ فَادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ أَنَّهُ قَدْ رَدَّهَا إلَيْهِ أَوْ إلَى صَاحِبِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ)؛ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى الرَّدِّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمِينٌ فِيهِ فَإِنَّهُ كَمَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي الْإِيدَاعِ، فَكَذَلِكَ فِي الِاسْتِرْدَادِ. فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُودَعِ مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ جَحَدَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِقَوْلِهِ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُودَعِ مَقْبُولٌ فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ عَنْ الضَّمَانِ لَا فِي وُصُولِ الْمَالِ إلَى مَنْ أَخْبَرَ بِدَفْعِهِ إلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُودِعَ لَوْ كَانَ وَصِيًّا فَادَّعَى الْمُودَعُ الرَّدَّ عَلَيْهِ لَا يَعْزِمُ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ شَيْئًا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْضِيَ الْوَدِيعَةِ دَيْنَهُ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلْت، وَقَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ: مَا قَضَيْت شَيْئًا؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ فِي بَرَاءَتِهِ، وَدَيْنُ الطَّالِبِ عَلَى الْمُودِعِ بِحَالِهِ. وَلَكِنْ يَحْلِفُ الشَّرِيكُ الَّذِي ادَّعَى الْمُودَعُ الرَّدَّ إلَيْهِ بِاَللَّهِ مَا قَبَضْته؛ لِأَنَّ شَرِيكَهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ ضَمَانَ نَصِيبِهِ بِجُحُودِهِ الْقَبْضَ، وَلَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لَزِمَهُ، فَإِذَا أَنْكَرَ حَلِفَهُ عَلَيْهِ. (وَكَذَلِكَ) لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ ادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ أَنَّهُ كَانَ دَفَعَهُ إلَى الْمَيِّتِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ أَمِينًا بَعْدَ مَوْتِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي الرَّدِّ مَقْبُولٌ فِي حَقِّ وَرَثَةِ الْمُودِعِ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ. ثُمَّ يُسْتَحْلَفُ الْوَرَثَةُ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْمُوَرِّثَ لَوْ كَانَ حَيًّا، وَأَنْكَرَ الْقَبْضَ اُسْتُحْلِفَ لِشَرِيكِهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ. إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ حَيًّا فَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَالْوَرَثَةُ يُسْتَحْلَفُونَ عَلَى فِعْلِ الْمُوَرِّثِ بِالْقَبْضِ. فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ، فَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ فَكَذَّبُوهُ، وَحَلَفُوا أَنَّهُمْ مَا قَبَضُوهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ حِصَّةِ الْحَيِّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي نَصِيبِ الْمَيِّتِ كَانَ لَهُ حَقُّ الدَّفْعِ إلَى وَرَثَتِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِي ذَلِكَ. فَأَمَّا نَصِيبُ الْحَيِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاءُ الْمَيِّتِ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً، وَلِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ قَدْ انْقَضَتْ بِالْمَوْتِ، فَهُوَ فِي نَصِيبِ الْحَيِّ مُقِرٌّ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ يَدْفَعُهُ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ، ثُمَّ يَكُونُ ذَلِكَ النِّصْفُ بَيْنَ الْحَيِّ وَوَرَثَةِ الْمَيِّتِ نِصْفَيْنِ؛

<<  <  ج: ص:  >  >>