للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَسْقُطُ عَنْهُ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنَّمَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ، فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْلَمُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهِ، وَكَانَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إذَا كَانَ عِنْدَهُ إنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ فَهُوَ فِي مَعْنَى النَّاسِي لِلْفَائِتَةِ فَيُجْزِئُهُ فَرْضُ الْوَقْتِ.

(وَلَنَا) أَنْ نَقُولَ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُجْتَهِدًا قَدْ ظَهَرَ عِنْدَهُ أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ لَيْسَ بِفَرْضٍ فَهُوَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ نَاسِيًا فَهُوَ مَعْذُورٌ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِأَدَاءِ الْفَائِتَةِ قَبْلَ أَنْ يَتَذَكَّرَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ ذَاكِرًا وَهُوَ غَيْرُ مُجْتَهِدٍ فَمُجَرَّدُ ظَنِّهِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يُعْتَبَرُ، فَإِنْ أَعَادَ الظُّهْرَ وَحْدَهَا ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْعَصْرَ لَهُ جَائِزٌ، قَالَ: يُجْزِئُهُ الْمَغْرِبُ وَيُعِيدُ الْعَصْرَ فَقَطْ؛ لِأَنَّ ظَنَّهُ هَذَا اسْتَنَدَ إلَى خِلَافٍ مُعْتَبَرٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَكَانَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا، وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فَسَادٌ قَوِيٌّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِيمَا يُؤَدَّى بَعْدَهُ، فَأَمَّا فَسَادُ الْعَصْرِ بِسَبَبِ تَذَكُّرِ التَّرْتِيبِ فَسَادٌ ضَعِيفٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى صَلَاةٍ أُخْرَى، فَهُوَ كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي الْبَيْعِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ.

قَالَ: (رَجُلٌ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَمَكَثَ فِيهَا شَهْرًا وَلَمْ يُصَلِّ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا)، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّ بِقَبُولِ الْإِسْلَامِ صَارَ مُلْتَزِمًا لِمَا هُوَ مِنْ أَحْكَامِهِ وَلَكِنْ قَصَرَ عَنْهُ خِطَابُ الْأَدَاءِ لِجَهْلِهِ بِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلْقَضَاءِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ، كَالنَّائِمِ إذَا انْتَبَهَ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ. وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ مَا يَجِبُ بِخِطَابِ الشَّرْعِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ افْتَتَحُوا الصَّلَاةَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ فَرْضِيَّةِ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ وَجَوَّزَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ. وَشَرِبَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ الْخَمْرَ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِهَا قَبْلَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: ٩٣] وَهَذَا لِأَنَّ الْخِطَابَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُخَاطَبِ الِائْتِمَارُ قَبْلَ الْعِلْمِ، فَلَوْ ثَبَتَ حُكْمُ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِ كَانَ فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ عَزْلَ الْوَكِيلِ وَالْحَجْرَ عَلَى الْمَأْذُونِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ، (وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا اسْتِحْسَانًا)، وَفِي الْقِيَاسِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ أَيْضًا وَهُوَ الْحَدُّ لِمَا بَيَّنَّا. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ هُوَ أَنَّ الْخِطَابَ شَائِعٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَقُومُ شُيُوعُ الْخِطَابِ مَقَامَ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُبَلِّغِ أَنْ يُبَلِّغَ كُلَّ أَحَدٍ إنَّمَا الَّذِي وُسْعُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْخِطَابَ شَائِعًا، وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَسْمَعُ الْأَذَانَ

<<  <  ج: ص:  >  >>