الصَّيْدِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ احْتِمَالِ وَجْهٍ آخَرَ، وَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ وَعَلَيْهِ يُبْنَى الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ قَالَ: (وَلَا يَحِلُّ صَيْدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ مُعَلَّمًا) بِأَنْ يَصِيدَ بِهِ ثَلَاثًا، فَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا فَيَحِلُّ حِينَئِذٍ الرَّابِعُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يُؤَقِّتْ فِيهِ وَقْتًا، وَلَكِنْ يَقُولُ: إذَا صَارَ عَالِمًا فَكُلْ مِنْ صَيْدِهِ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي تَعْلِيمِهِ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِأَنْ يُجِيبَهُ إذَا دُعِيَ وَيُرْسِلَهُ عَلَى الصَّيْدِ فَيَصِيدُهُ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَمْ يُؤَقِّتْ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقْتًا، وَلَكِنَّهُ قَالَ: هُوَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ صَاحِبِهِ، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَارَ مُعَلَّمًا فَهُوَ مُعَلَّمٌ، وَرُبَّمَا قَالَ: يَرْجِعُ إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ الصَّيَّادِينَ، فَإِذَا قَالُوا صَارَ مُعَلَّمًا فَهُوَ مُعَلَّمٌ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُعَلَّمَ يُمْسِكَ الصَّيْدَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ إلَّا أَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ قَدْ يَكُونُ لِلشِّبَعِ وَقَدْ يَكُونُ لِلْإِمْسَاكِ عَلَى صَاحِبِهِ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ مِرَارًا عَلَى الْوَلَاءِ يَزُولُ بِهِ هَذَا الِاحْتِمَالُ، وَنَعْلَمُ أَنَّهُ مُعَلَّمٌ لِإِمْسَاكِهِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَقَدَّرْنَا ذَلِكَ بِالثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ حُسْنُ الِاخْتِيَارِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قِصَّةُ مُوسَى مَعَ مُعَلِّمِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَيْثُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: ٧٨] وَكَذَلِكَ الشَّرْعُ قَدَّرَ مُدَّةَ الِاخْتِيَارِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِلِاخْتِيَارِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ»، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذَا لَمْ يَرْبَحْ أَحَدُكُمْ فِي التِّجَارَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلْيَرْجِعْ إلَى غَيْرِهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: نَصْبُ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ فَيَكُونُ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الِاجْتِهَادَ وَالرُّجُوعَ إلَى مَنْ لَهُ عِلْمٌ فِي ذَلِكَ الْبَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٤٣] وَهَذَا لِأَنَّ احْتِمَالَ الشِّبَعِ كَمَا يَكُونُ فِي الْمَرَّةِ يَكُونُ فِي الْمَرَّاتِ، (وَرَوَى) الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مِثْلَ قَوْلِهِمَا فِي التَّقْدِيرِ بِالثَّلَاثِ إلَّا أَنَّ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: يُؤْكَلُ الصَّيْدُ الثَّالِثُ، وَهُمَا يَقُولَانِ لَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ الثَّالِثُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَكَمَ بِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا حِينَ تَرَكَ الْأَكْلَ مِنْ الثَّلَاثِ، وَآخِرُهُ لِهَذَا الصَّيْدِ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَا يُؤْكَلُ مِنْهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنَّمَا يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا بِطَرِيقِ تَعْيِينِ إمْسَاكِهِ الثَّالِثَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِذَا حَكَمْنَا بِأَنْ يُمْسِكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَقَدْ أَخَذَهُ بَعْدَ إرْسَالِ صَاحِبِهِ حَلَّ التَّنَاوُلُ مِنْهُ كَالرَّابِعِ.
قَالَ: (وَإِذَا أَخَذَ الرَّجُلُ الصَّيْدَ مِنْ الْكَلْبِ ثُمَّ وَثَبَ عَلَيْهِ الْكَلْبُ فَانْتَهَشَ مِنْهُ قِطْعَةً وَرَمَى بِهَا صَاحِبُهَا إلَيْهِ فَأَكَلَهَا لَمْ يُفْسِدْهُمَا عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ إمْسَاكُهُ عَلَى صَاحِبِهِ حِينَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حَتَّى وَصَلَ إلَى يَدِ صَاحِبِهِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ انْتِهَاشُهُ مِنْهُ وَمِنْ لَحْمٍ آخَرَ فِي مِخْلَاةِ صَاحِبِهِ سَوَاءٌ، فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute