«فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ حُوتًا يُقَالُ لَهُ عَنْبَرُ» وَهُوَ اسْمٌ لِلسَّمَكِ، وَتَأْوِيلُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ جَوَّزَ لَهُمْ التَّنَاوُلَ لِضَرُورَةِ الْمَجَاعَةِ أَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: ١٥٧] ثُمَّ الْأَصْلُ عِنْدَنَا فِي إبَاحَةِ السَّمَكِ أَنَّ مَا مَاتَ مِنْهُ بِسَبَبٍ فَهُوَ حَلَالٌ كَالْمَأْخُوذِ مِنْهُ، وَمَا مَاتَ بِغَيْرِ سَبَبٍ فَهُوَ غَيْرُ مَأْكُولٍ كَالطَّافِي، فَإِنْ ضَرَبَ سَمَكَةً فَقَطَعَ بَعْضَهَا، فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا لِوُجُودِ السَّبَبِ، وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَ فِي بَطْنِهَا سَمَكَةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ ضِيقَ الْمَكَانِ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهَا شَيْءٌ مِنْ طَيْرِ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَتْ فِي جُبٍّ؛ لِأَنَّ ضِيقَ الْمَكَانِ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ جَمَعَهَا فِي حَظِيرَةٍ لَا تَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ مِنْهَا، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهَا بِغَيْرِ صَيْدٍ، فَلَا خَيْرَ فِي أَكْلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِمَوْتِهَا سَبَبٌ.
وَإِذَا مَاتَ السَّمَكُ فِي الشَّبَكَةِ وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهَا أَوْ أَكَلَ شَيْئًا أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ لِيَأْكُلَهُ فَمَاتَ مِنْهُ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَبَطَهَا فِي الْمَاءِ فَمَاتَتْ، فَهَذَا كُلُّهُ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا وَهُوَ فِي مَعْنَى مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ فَكُلْ» وَكَذَلِكَ لَوْ انْجَمَدَ الْمَاءُ فَبَقِيَتْ بَيْنَ الْجَمْدِ فَمَاتَتْ، فَأَمَّا إذَا مَاتَتْ بِحَرِّ الْمَاءِ أَوْ بَرْدِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فَعَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ تُؤْكَلُ لِوُجُودِ السَّبَبِ لِمَوْتِهَا، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا تُؤْكَلُ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَقْتُلُ السَّمَكَ حَارًّا أَوْ بَارِدًا، (وَرَوَى) هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إذَا انْحَسَرَ الْمَاءُ عَنْ بَعْضِهِ، فَإِنْ كَانَ رَأْسُهُ فِي الْمَاءِ فَمَاتَ لَا يُؤْكَلُ، وَإِنْ انْحَسَرَ الْمَاءُ عَنْ رَأْسِهِ وَبَقِيَ ذَنَبُهُ فِي الْمَاءِ، فَهَذَا سَبَبٌ لِمَوْتِهِ فَيُؤْكَلُ.
قَالَ: (وَإِذَا أَرْسَلَ بَازِيَهُ الْمُعَلَّمَ عَلَى صَيْدٍ، وَوَقَعَ عَلَى صَيْدٍ ثُمَّ اتَّبَعَ الصَّيْدَ وَأَخَذَهُ، وَقَتَلَهُ، فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ)؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ، وَلِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْبَازِي هَذَا أَنْ يَقَعَ عَلَى شَيْءٍ وَيَنْظُرَ إلَى صَيْدٍ لِيَأْتِيَهُ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَمِينِ الْفَهْدِ، فَلَا يَحْرُمُ بِهِ صَيْدُهُ، وَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ فَوْرَ الْإِرْسَالِ.
قَالَ: (وَإِذَا أَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ فَأَثْخَنَهُ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ بَرَاحًا ثُمَّ رَمَاهُ بِسَهْمٍ آخَرَ فَقَتَلَهُ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ)؛ لِأَنَّ هَذَا قَدْ صَارَ أَهْلِيًّا فَقَدْ عَجَزَ بِالْفِعْلِ الْأَوَّلِ عَنْ الِاسْتِيحَاشِ وَالطَّيَرَانِ فَذَكَاتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ لَا بِالرَّمْيِ بَلْ الرَّمْيُ فِي مِثْلِهِ مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ، وَلَمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ وَالْمُوجِبُ لِلْحِلِّ يَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ، وَلِأَنَّ إثْخَانَهُ إيَّاهُ كَأَخْذِهِ، وَلِهَذَا لَوْ أَثْخَنَهُ أَحَدُهُمَا وَأَخَذَهُ الْآخَرُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، وَلَوْ أَخَذَهُ ثُمَّ رَمَاهُ فَقَتَلَهُ لَمْ يُؤْكَلْ فَكَذَلِكَ إذَا أَثْخَنَهُ، وَإِنْ رَمَى بِالسَّهْمِ الثَّانِي غَيْرَهُ فَقَتَلَهُ لَمْ يَحِلَّ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ مَجْرُوحًا لِلْأَوَّلِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذَا لَا يُخَالِفُهُمَا، وَلَكِنْ لَمْ يَحْفَظْ جَوَابَهُ فَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute