كَالْعِتْقِ بِخِلَافِ الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ الْمُتَمَلِّكِ، أَوْ مِنْ نَائِبِهِ لِيَتَأَكَّدَ بِهِ مِلْكُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ قَبْضُ غَيْرِهِ لَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَالصَّدَقَةُ الْمَوْقُوفَةُ لَا يَتَمَلَّكُهَا أَحَدٌ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِيهَا، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ مُخْتَارُ الْوَاقِفِ فَيَدُهُ تَقُومُ مَقَامَ يَدِ الْوَاقِفِ لَا مَقَامَ يَدِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَا اخْتَارَهُ وَرُبَّمَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَيْضًا.
فَإِذَا كَانَتْ تَتِمُّ بِيَدِ مَنْ اخْتَارَهُ الْوَاقِفُ فَبِيَدِ الْوَاقِفِ أَوْلَى بِخِلَافِ الْعَدْلِ فِي الرَّهْنِ فَإِنَّ يَدَهُ كَيَدِ الْمُرْتَهِنِ هُنَاكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ عَدْلًا إلَّا بِرِضَا الْمُرْتَهِنِ وَاخْتِيَارِهِ؛ وَلِهَذَا يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْعَدْلِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ ثَبَتَ فِي الْعَيْنِ فَتَمَكَّنَ فَيُجْعَلُ الْعَدْلُ نَائِبًا عَنْهُ وَهُنَا الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ فِي الْغَلَّةِ لَا فِي الْعَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْمُتَوَلِّي نَائِبًا عَنْهُ فِي قَبْضِ الْعَيْنِ بَلْ هُوَ نَائِبٌ عَنْ الْوَاقِفِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ قَبْضِهِ، وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ بِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ جَعَلَ وَقْفَهُ فِي يَدِ ابْنَتِهِ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَتِمَّ الْوَقْفُ، وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ فَعَلَ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ وَخَافَ التَّقْصِيرَ مِنْهُ فِي أَوَانِهِ، أَوْ لِيَكُونَ فِي يَدِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ.
فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ لِإِتْمَامِ الْوَقْفِ فَلَا وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو عَاصِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَقْوَى لِمُقَارَبَتِهِ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ الْآثَارِ وَعَلَى هَذَا الْخَانُ وَالرِّبَاطُ يَتِمُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ أَحَدٌ، وَلَا يَتِمُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي، أَوْ بِنُزُولِ النَّاسِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمَقْبَرَةُ وَالسِّقَايَةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى قَيِّمٍ يَقُومُ عَلَيْهِ، أَوْ بِأَنْ يَدْفِنُوا فِي الْمَقْبَرَةِ رَجُلًا وَاحِدًا، أَوْ يُسْقَى مِنْ السِّقَايَةِ رَجُلٌ وَاحِدٌ.
وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ إلَّا أَنَّ فِي الْمَسْجِدِ تَمَامَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنْ يُصَلِّيَ النَّاسُ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُتَوَلِّي فِي الْمَسْجِدِ لَا يَتَحَقَّقُ إذْ لَا تَدْبِيرَ فِيهِ لِلْمُتَوَلِّي فِي اخْتِيَارِ مَنْ يُصَلِّي بِالْمَسْجِدِ، أَوْ الِاسْتِغْلَالِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ قَدْ تَحَرَّزَ عَنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَا تَدْبِيرَ لِأَحَدٍ فِي سَدِّ بَابِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كُرِهَ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ أَنْ يُغْلِقُوا بَابَ الْمَسْجِدِ فَكَيْف بِغَيْرِهِمْ؛ فَلِهَذَا يُوقَفُ التَّمَامُ عَلَى إقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ، وَفِي سَائِرِ الْوَقْفِ لِلْمُتَوَلِّي تَدْبِيرٌ فِي ذَلِكَ فَجُعِلَ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي مُتَمِّمًا لِلصَّدَقَةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي سَائِرِ الْوَقْفِ مَنْفَعَةُ الْعِبَادِ فَيُمْكِنُ جَعْلُ يَدِ الْمُتَوَلِّي فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ يَدِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا إقَامَةُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْمَسْجِدِ خَالِصًا، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ.
قَالَ (وَلَوْ وَقَفَ نِصْفَ أَرْضٍ، أَوْ نِصْفَ دَارٍ مُشَاعًا عَلَى الْفُقَرَاءِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute