للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِهَا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ - وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرٌ عَظِيمٌ - فَرُبَّمَا يَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ فِي أَحَدِهِمَا، وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ لِلْقَضَاءِ فَيَشْتَغِلُ بِمَا تَعَيَّنَ لَهُ وَيَدَعُ الْفَتْوَى لِغَيْرِهِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا: أَنَّهُ لَا بَأْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ إذَا كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَقْضُونَ بَيْنَ النَّاسِ وَيُفْتُونَ، وَالْقَضَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ فَتْوَى، إلَّا أَنَّهُ فَتْوَى فِيهِ إلْزَامٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقَاضِي فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يُسَمَّى مُفْتِيًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ شُرَيْحًا أَفْتَى لَمَّا أَعَادَ السُّؤَالَ بِقَوْلِهِ: لَا حَبِيسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى. فَهُوَ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيَّنَّاهُ فِي الْوَقْفِ (وَعَنْ) ابْنِ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: «جَاءَ مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِبَيْعِ الْحَبِيسِ» وَهَكَذَا عَنْ الشَّعْبِيِّ، وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا - فِيمَا بَيْنَهُمْ - أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ (وَعَنْ) عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَتَصَدَّقُ عَلَى وَلَدِهِ بِصَدَقَةٍ لَا يَحُوزُهَا وَلَا يَقْسِمُهَا، يَقُولُ: إنْ أَنَا مِتّ كَانَتْ لَهُ، وَإِنْ مَاتَ هُوَ رَجَعَتْ إلَيَّ، وَاَيْمُ اللَّهِ: لَا يَتَصَدَّقُ مِنْكُمْ رَجُلٌ عَلَى وَلَدِهِ بِصَدَقَةٍ لَمْ يَحُزْهَا وَلَمْ يَقْسِمْهَا، ثُمَّ مَاتَ إلَّا صَارَتْ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحِيَازَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: الْقَبْضُ، فَإِنَّهَا قُرِنَتْ بِالْقِسْمَةِ فَلَوْ حَمَلْنَا الْحِيَازَةَ عَلَى الْقِسْمَةِ: كَانَتْ تَكْرَارًا، وَلَوْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْقَبْضِ: كُنَّا قَدْ اسْتَفَدْنَا بِكُلِّ لَفْظٍ فَائِدَةً جَدِيدَةً

وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ بَعْدَ مَا تَصَدَّقَ عَلَى وَلَدِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَيْهِ؛ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِلْوَرَثَةِ، وَتَأْوِيلُهُ: إذَا كَانَ الْوَلَدُ بَالِغًا فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي عِيَالِ الْأَبِ أَوْ لَا يَكُونُ - وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ - فَإِذَا لَمْ يَقْسِمْهَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِلْوَلَدِ فَكَانَ مِيرَاثًا عَنْ الْأَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ.

(وَعَنْ) عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إذَا وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا هِبَةً، فَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ فِيهَا إذَا هِيَ ادَّعَتْ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا، وَإِنْ وَهَبَ هُوَ لَهَا شَيْئًا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ، وَلَيْسَ مُرَادَهُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الرُّجُوعِ - بِحُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ - وَإِنَّمَا مُرَادُهُ: أَنَّ الدَّعْوَى مِنْ الْمَرْأَةِ أَنَّهَا كَانَتْ مُكْرَهَةً: مَسْمُوعٌ، وَمِنْ الزَّوْجِ: لَا؛ لِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الزَّوْجَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إكْرَاهِ زَوْجَتِهِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ إكْرَاهِ زَوْجِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخَافُ عَلَى نَفْسِهَا مَنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِكْرَاهُ مِنْ الضَّرْبِ وَالْحَبْسِ، وَالزَّوْجُ لَا يَخَافُ ذَلِكَ مَنْ جِهَةِ امْرَأَتِهِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْهِبَةَ مِنْ الْمُكْرَهِ لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْهِبَةِ تَمَامُ الرِّضَا، وَالْإِكْرَاهُ يَعْدِمُ الرِّضَا.

قَالَ: وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً مَقْسُومَةً لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، وَإِنْ وَهَبَهَا لِأَجْنَبِيٍّ، أَوْ لِذِي

<<  <  ج: ص:  >  >>