فِيهِ - عِنْدَنَا - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَهُ ذَلِكَ - لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ»، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ، وَمِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ، وَفِي حَدِيثِ نُعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «نَحَلَنِي أَبِي غُلَامًا، وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ فَأَبَتْ أَمِّي إلَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمَلَنِي أَبِي عَلَى عَاتِقِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ فَقَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوَكُلُّ وَلَدِك نَحَلْته مِثْلَ هَذَا فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هَذَا جَوْرٌ، وَإِنَّا لَا نَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ؛ اُرْدُدْ.» فَقَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرُّجُوعِ فِيهِ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْأَمْرِ أَنْ يُفِيدَ الْإِبَاحَةَ؛ وَلِأَنَّهُ جَادَ بِكَسْبِهِ عَلَى كَسْبِهِ فَيَتَمَكَّنَ مِنْ الرُّجُوعِ فِيهِ كَمَا لَوْ وَهَبَ لِعَبْدِهِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُهُ، قِيلَ: فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: ٢]: وَمَا وَلَدَ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ». وَتَأْثِيرُهُ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْ مِلْكِهِ إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ كَسْبًا لَهُ، كَالْمَوْهُوبِ بِهِ، وَإِذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ جُزْءًا مِنْهُ، فَلَا يَشْكُل أَنَّهُ لَا يَتِمُّ خُرُوجُهُ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْتَصَّ الْوَالِدُ بِمَا لَا يُشَارِكُهُ الْوَلَدُ فِيهِ كَالتَّمَلُّكِ بِالِاسْتِيلَادِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْأَبِ فِي جَارِيَةِ ابْنِهِ، وَلَا يَثْبُتُ لِلِابْنِ فِي جَارِيَةِ أَبِيهِ، وَحُجَّتُنَا: مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ فَهُوَ الْإِمَامُ لَنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَلِأَنَّ الْهِبَةَ قَدْ تَمَّتْ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِلْكًا وَعَقْدًا، فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهِ، كَالِابْنِ إذَا وَهَبَ لِأَبِيهِ أَوْ الْأَخِ لِأَخِيهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ وَهُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ، وَلِأَنَّ فِي الرُّجُوعِ مَعْنَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْوَالِدِ مَعَ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالرُّجُوعِ يَحْمِلُهُ عَلَى الْعُقُوقِ
وَإِنَّمَا أَمَرَ الْوَالِدَ أَنْ يَحْمِل وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ، وَلَا يُقَالُ: مَقْصُودُ الْوَالِدِ أَنْ يَخْدُمَهُ الْوَلَدُ، وَلَمَّا رَجَعَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَنَلْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ تَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى خَفِيٌّ لَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْوَلَدِ إذَا وَهَبَ لِوَالِدِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَخُصَّهُ بِإِكْرَامٍ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنَلْ ذَلِكَ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الْكَسْبِ، فَإِنَّهُ لَوْ وَهَبَ لِمُكَاتَبِهِ، أَوْ لِمُعْتَقِهِ: لَا يَرْجِعُ فِيهِ، وَهُوَ كَسْبُهُ أَيْضًا؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُهُ - لَا مِلْكُهُ - بِخِلَافِ عَبْدِهِ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَّا الْوَالِدَ: وَلَا الْوَالِدَ، فَإِنَّ كَلِمَةَ (إلَّا) تُذْكَرُ بِمَعْنَى (وَلَا). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: ١٥٠] أَيْ، وَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، وقَوْله تَعَالَى {: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً} [النساء: ٩٢] أَيْ: وَلَا خَطَأً. أَوْ الْمُرَادُ: إلَّا الْوَالِدَ؛ فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ بِأَخْذِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ - عَلَى مَا قَرَّرْنَا -. وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قِيلَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute