للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِأَنَّ الرَّاجِعَ يُعِيدُ إلَى نَفْسِهِ مِلْكًا هُوَ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، وَلَا رِضًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ هُوَ يَطْلُبُ لِحَقِّهِ فَالْمَوْهُوبُ لَهُ يَمْنَعُ تَمَلُّكهُ فَكَانَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا إلَى الْقَاضِي كَمَا فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَالْفُرْقَةِ بَيْنَ الْعِنِّينِ وَامْرَأَتِهِ.

قَالَ: (وَإِذَا أَوْدَعَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ شَيْئًا ثُمَّ لَقِيَهُ فَوَهَبَهُ لَهُ، وَلَيْسَ الشَّيْءُ بِحَضْرَتِهِمَا فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ إذَا قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ: قَبِلْت وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَبْضٍ جَدِيدٍ)؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَالْيَدُ مُسْتَدَامَةٌ فَاسْتِدَامَتُهَا كَإِنْشَائِهَا بَعْدَ قَبُولِ الْهِبَةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الْهِبَةِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلضَّمَانِ؛ فَيَدُ الْأَمَانَةِ تَنُوبُ عَنْهُ - بِخِلَافِ الشِّرَاءِ - فَإِنَّ الْمُودَع إذَا اشْتَرَى الْوَدِيعَةَ مِنْ الْمُودِعِ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِحَاضِرَةٍ لَا يَصِيرُ قَابِضًا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ، فَإِنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ قَبْضُ ضَمَانٍ، وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ دُونَ قَبْضِ الضَّمَانِ، وَالضَّعِيفُ لَا يَنُوبُ عَنْ الْقَوِيِّ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْعَارِيَّةِ وَالْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجَر قَبْضُ أَمَانَةٍ كَقَبْضِ الْمُودَعِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، قَالَ: (، وَالنَّحْلَى وَالْعُمْرَى، وَالْعَطِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا)؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَارَاتٌ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التَّمْلِيكُ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْمَقْصُودُ لَا الْعِبَارَةُ عَنْهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ الْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ فِيهِ سَوَاءٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ الْعُمْرَى، وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ، يَعْنِي: شَرْطَ الْعَوْدِ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ.

أَمَّا الصَّدَقَةُ إذَا تَمَّتْ بِالْقَبْضِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا سَوَاءٌ كَانَتْ لِقَرَابَتِهِ، أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالصَّدَقَةِ نِيلُ الثَّوَابِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ، وَلَا رُجُوعَ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِتَمَامِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَجْعَلُ ذَلِكَ الْمَالَ لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يَصْرِفُهُ إلَى الْفَقِيرِ فَيَكُونُ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُعْطِي فِيهِ مِنَّةٌ عَلَى الْقَابِضِ، وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي مِلْكِ ذَلِكَ الْمَالِ الْمُتَمَلَّكِ مِنْ جِهَتِهِ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ فِيهَا.

وَيَسْتَوِي فِي الْهِبَةِ حُكْمُ الرُّجُوعِ إنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَالْمَقْصُودُ: الْعِوَضُ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا لَهُ فَالْمَقْصُودُ: صِلَةُ الرَّحِمِ، وَفِي هَذَا الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ سَوَاءٌ.

قَالَ: (وَإِذَا وَهَبَ عَبْدًا لِأَخِيهِ، وَلِأَجْنَبِيٍّ، وَقَبَضَاهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي نَصِيبِ الْأَجْنَبِيِّ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ)؛ وَهَذَا لِأَنَّ فِي نَصِيبِ الْأَجْنَبِيِّ: مَقْصُودُهُ: الْعِوَضُ، وَلَمْ يَنَلْ ذَلِكَ.

قَالَ: (وَإِنْ وَهَبَ لِأَخِيهِ هِبَةً، وَهُوَ عَبْدٌ فَقَبَضَهَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا)؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْهِبَةِ وَقَعَ لِلْمَوْلَى، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، وَالْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ الْعِوَضُ وَالْمُكَافَأَةُ، وَلَمْ يَنَلْ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُخَاصِمُ فِي الرُّجُوعِ الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمِلْكَ وَالْيَدَ لَهُ، فَلَا يَتَمَكَّنُ بَيْنَهُمَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إذَا كَانَ الْمَوْلَى أَجْنَبِيًّا.

قَالَ: (وَإِنْ وَهَبَ لِعَبْدَ أَخِيهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>