للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَقَدْ مَلَكَ الْهِبَةَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَابِلَهُ شَيْءٌ ثُمَّ تَأْثِيرُ الْعِوَضِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ فِي الرُّجُوعِ، وَالْجُزْءُ مِنْ الْعِوَضِ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّ إذَا تَمَّ رِضَاهُ بِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِلْعِوَضِ شَبَهَيْنِ شَبَهُ ابْتِدَاءَ الْهِبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعِوَضَ مُخْتَارٌ فِيهِ مُتَبَرِّعٌ، وَشَبَهُ الْمُبَادَلَةَ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَلَكَهُ مُضَافًا إلَى الْهِبَةِ فَتَوَفَّرَ حَظُّهُ عَلَيْهِمَا فَنَقُولُ لِشَبَهِهِ بِالْمُبَادَلَاتِ إذَا اسْتَحَقَّ الْكُلّ رَجَعَ فِي الْهِبَةِ، وَلِشَبَهِهِ بِابْتِدَاءِ الْهِبَةِ إذَا اسْتَحَقَّ النِّصْفَ لَا يَرْجِعُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْهِبَةِ إلَّا أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ.

قَالَ: (وَسَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ شَيْئًا قَلِيلًا، أَوْ كَثِيرًا مِنْ جِنْسِ الْهِبَةِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا)؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ، فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا الرِّبَا، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ الْعِوَضِ فِي قَطْعِ الْحَقِّ، وَفِي الرُّجُوعِ لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ إذَا بَيَّنَهُ لِلْوَاهِبِ، وَرَضِيَ الْوَاهِبُ بِهِ.

قَالَ: (فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ أَلْف دِرْهَمٍ، وَالْعِوَضُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ لَمْ يَكُنْ عِوَضًا، وَكَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ)، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْهِبَةُ دَارًا، وَالْعِوَضُ بَيْتٌ مِنْهَا، وَعَنْ زُفَرَ أَنَّ هَذَا يَكُونُ عِوَضًا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ قَدْ تَمَّ فِي الْمَوْهُوبِ بِالْقَبْضِ، وَالْتَحَقَ الْمَقْبُوضُ بِسَائِرِ أَمْوَالِهِ فَكَمَا يَصْلُحُ سَائِرُ أَمْوَالِهِ عِوَضًا عَنْ الْهِبَةِ - قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ - فَكَذَلِكَ هَذَا وَجْهُ قَوْلِنَا إنَّ مَقْصُودَ الْوَاهِبِ بِهَذَا لَا يَحْصُلُ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ يَهَبُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْهُ، مَا قَصَدَ تَحْصِيلَ دِرْهَمٍ مِنْ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَالِمًا لَهُ، وَسُقُوطُ حَقِّهِ فِي الرُّجُوعِ بِاعْتِبَارِ حُصُولِ مَقْصُودِهِ بِالْهِبَةِ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ عِوَضًا بِالتَّرَاضِي فِي الِانْتِهَاءِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عِوَضًا شُرِطَ فِي الِابْتِدَاءِ، فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَجْعَلَ عِوَضًا فِي الِانْتِهَاءِ بِخِلَافِ مَالٍ آخَرَ مِنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ.

قَالَ: (وَلَوْ أَنَّ نَصْرَانِيًّا وَهَبَ لِلْمُسْلِمِ هِبَةً، فَعَوَّضَهُ الْمُسْلِمُ مِنْهَا خَمْرًا، أَوْ خِنْزِيرًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِوَضًا)؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ عِوَضًا شُرِطَ فِي الِابْتِدَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْمُعَوَّضَ مُمَلَّكٌ ابْتِدَاءً وَتَمْلِيكُ الْمُسْلِمِ الْخَمْرَ، أَوْ الْخِنْزِيرَ مِنْ النَّصْرَانِيِّ بِالْعَقْدِ بَاطِلٌ، وَإِذَا بَطَلَ التَّعْوِيضُ كَانَ لِلنَّصْرَانِيِّ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ.

قَالَ: (عَبْدٌ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَهَبَ لِرَجُلٍ هِبَةً فَعَوَّضَهُ مِنْ هِبَتِهِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِي الَّذِي لَهُ)؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ الْعَبْدِ بَاطِلَةٌ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنْفَكٍّ عَنْهُ الْحَجْرُ بِالتَّبَرُّعِ، وَبِالتَّعْوِيضِ الْهِبَةُ الْبَاطِلَةُ لَا تَنْقَلِبُ صَحِيحَةً، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ الْعِوَضِ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الرُّجُوعِ فِي هِبَةٍ صَحِيحَةٍ وَإِذَا رَجَعَ الْعَبْدُ فِي الْهِبَةِ - لِبُطْلَانِهَا -؛ فَلِلْمُعَوَّضِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعِوَض؛ لِأَنَّهُ عَوَّضَهُ لِيُسَلِّمَ لَهُ الْهِبَةَ، وَلَمْ يُسَلِّمْ، قَالَ: (وَكَذَلِكَ وَالِدُ الصَّغِيرِ إذَا وَهَبَ مِنْ مَالِ ابْنِهِ شَيْئًا لِرَجُلٍ فَعَوَّضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ)؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْوِيضٌ عَنْ هِبَةٍ بَاطِلَةٍ، قَالَ: (فَإِنْ كَانَ الْوَاهِبُ هُوَ الرَّجُلُ فَعَوَّضَهُ الْأَبُ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ: لَمْ يَجُزْ

<<  <  ج: ص:  >  >>