للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْتِبَارُ الْمَعْنَى - إلَّا إذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ لِلْمُنَافَاةِ - وَلَا مُنَافَاةَ هُنَا - فَشَرْطُ الْعِوَضِ لَا يَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ حَقِيقَةِ التَّعْوِيضِ، وَبِحَقِيقَةِ التَّعْوِيضِ لَا يَنْتَفِي مَعْنَى الْهِبَةِ، فَبِشَرْطِ الْعِوَض أَوْلَى بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ؛ فَإِنَّ هُنَاكَ بَيْن اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مُنَافَاةً، وَقَدْ وَجَبَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى؛ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ اللَّفْظِ - لِذَلِكَ - ثُمَّ انْعِقَادُ الْعَقْدِ بِاللَّفْظِ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْحُكْمُ، وَأَوَانُهُ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ.

فَعِنْدَ الِانْعِقَادِ اعْتَبَرْنَا اللَّفْظَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بِهِ يَنْعَقِدُ، وَعِنْدَ التَّمَامِ اُعْتُبِرَ الْمَقْصُودُ، وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ تَوَفَّرَ حَظُّهُ عَلَيْهِمَا. فَالْمُكَاتَبُ لَمَّا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ مِنْ وَجْهٍ، وَبِمَنْزِلَةِ الْمَمْلُوكِ مِنْ وَجْهٍ: اُعْتُبِرَ الشَّبَهَانِ. فَأَمَّا لَفْظُ الْإِعَارَةِ، أَوْ الْهِبَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ ابْنِ طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ قَالَ: كُنَّا فِي تَدْبِيرِ جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَوَجَدْت رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ، يَقُولُ: هُنَاكَ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا تَبَرُّعًا ابْتِدَاءً، مُعَاوَضَةً انْتِهَاءً؛ فَجَعَلْنَاهُ مُعَاوَضَةً ابْتِدَاءً - بِخِلَافِ الْعَيْنِ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ -. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْإِكْرَاهِ: قُلْنَا: الْمُكْرَهُ مُضَارٌّ مُتَعَنِّتٌ، وَمَعْنَى الْإِضْرَار فِي حُكْمِ السَّبَبِ لَا فِي نَفْسِهِ؛ فَلِهَذَا اسْتَوْفَى فِي حَقِّهِ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ، وَلِهَذَا جَعَلَ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْهِبَةِ إكْرَاهًا عَلَى التَّسْلِيمِ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ الْبَيْع، وَالْهِبَة بِشَرْطِ الْعِوَضِ سَوَاءٌ، إذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ، فَنَقُولُ قَبْلَ التَّقَابُضِ: الْعَقْدُ تَبَرُّعٌ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ، وَلَا يُمَلَّكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَتَاعَ صَاحِبِهِ - مَا لَمْ يَقْبِضْهُ - وَلَا يَجُوزُ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَبَعْدَ التَّقَابُضِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَيَجِبُ لِلشَّفِيعِ بِهِ الشُّفْعَة، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرُدَّ مَا فِي يَدِهِ بِعَيْبٍ - إنْ وُجِدَ فِيهِ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْبَيْعِ - وَإِنْ اسْتَحَقَّ مَا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا فِي يَدِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَبِقِيمَتِهِ إنْ كَانَ هَالِكًا؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ مَتَاعِهِ إلَّا بِشَرْطِ سَلَامَة الْعِوَضِ لَهُ فَإِذَا لَمْ يُسْلِمْ رَجَعَ بِمَتَاعِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَبِمَالِيَّتِهِ إنْ كَانَ هَالِكًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا - وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ.

قَالَ: (رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ ثَوْبًا لِغَيْرِهِ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ فَأَجَازَ رَبُّ الثَّوْبِ: جَازَتْ الْهِبَةُ)؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتِمُّ رِضَا الْمَالِك بِهَا، ثُمَّ الْعَاقِدُ فِي الْهِبَةِ يَكُونُ مُعِيرًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ، وَالْمُجِيزُ يَكُونُ كَالْمُبَاشِرِ لِعَقْدِ الْهِبَةِ؛ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا لَا يُعَوِّضُهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، أَوْ يَكُون ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، وَإِنْ عَوَّضَ الرَّجُلُ الَّذِي وَهَبَ لَهُ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ رَبَّ الثَّوْبِ مِنْ الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ مُعْتَبَرٌ كَالرَّسُولِ، فَلَا مُعْتَبَرَ بِحَالِهِ، وَإِنَّمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>