فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الطَّعْمُ وَالثَّمَنِيَّةُ؛ امْتَنَعَ قِيَاسُ غَيْرِ الْمَطْعُومِ عَلَى الْمَطْعُومَاتِ، وَغَيْرِ الْأَثْمَانِ عَلَى الْأَثْمَانِ؛ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ فِيهَا، وَلَمَّا جَعَلَ الشَّرْعُ الْقَدْرَ مُعْتَبَرًا فِي الْخَلَاصِ عَنْ الرِّبَا؛ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ فِي الْوُقُوعِ فِي الرِّبَا؛ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَتَضَمَّنَ الشَّيْءُ حُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، بَلْ الْقَدْرُ فِي الْمُقَدَّرَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَدِ فِي الْمَعْدُودَاتِ، وَالزُّرُوعِ فِي الْمَزْرُوعَاتِ. فَكَمَا لَا يَصْلُحُ جَعْلُ عِلَّةِ ذَلِكَ لِلرِّبَا فَكَذَلِكَ الْقَدْرُ. وَحُجَّتُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ مَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ بِصِفَةِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ. فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهَا الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ. وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فَقَوْلُهُ: الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ، مَعْنَاهُ: بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ. وَالْبَيْعُ لَا يَجْرِي بِاسْمِ الْحِنْطَةِ؛ فَالِاسْمُ يَتَنَاوَلُ الْحَبَّةَ الْوَاحِدَةَ وَلَا يَبِيعُهَا أَحَدٌ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ مَالِيَّتَهَا وَلَوْ بَاعَهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَعُلِمَ ضَرُورَةً أَنَّ الْمُرَادَ: الْحِنْطَةُ الَّتِي هِيَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَلَا يُعْلَمُ مَالِيَّتُهَا إلَّا بِالْكَيْلِ فَصَارَتْ صِفَةُ الْكَيْلِ ثَابِتَةً بِمُقْتَضَى النَّصِّ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ. فَالِاسْمُ قَائِمٌ بِالذُّرَةِ وَلَا يَبِيعُهَا أَحَدٌ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ مَالِيَّتُهَا بِالْوَزْنِ كَالشَّعِيرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَصَارَتْ صِفَةُ الْوَزْنِ ثَابِتَةً بِمُقْتَضَى النَّصِّ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: الذَّهَبُ الْمَوْزُونُ بِالذَّهَبِ، وَالْحِنْطَةُ الْمَكِيلَةُ بِالْحِنْطَةِ، وَالصِّفَةُ مِنْ اسْمِ الْعَلَمِ يَجْرِي مَجْرَى الْعِلَّةِ لِلْحُكْمِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ».
وَمَا ثَبَتَ بِمُقْتَضَى النَّصِّ فَهُوَ كَالْمَنْصُوصِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: غَصَبْت مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُبَيِّنَ مَالًا مُتَقَوِّمًا؛ لِثُبُوتِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ بِمُقْتَضَى الْغَصْبِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ». ذَكَرَ الطَّعَامَ عِنْدَ ذِكْرِ الْبَيْعِ فَلَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْحِنْطَةَ وَدَقِيقَهَا؛ كَمَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ طَعَامًا، فَاشْتَرَى فَاكِهَةً يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَهَذَا لِأَنَّ سُوقَ الطَّعَامِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْحِنْطَةُ وَدَقِيقُهَا وَبَائِعُ الطَّعَامِ مَنْ يَبِيعُ الْحِنْطَةَ وَدَقِيقَهَا. وَهَذَا مِنْ أَبْوَابِ الْكِتَابِ لَيْسَ مِنْ فِقْهِ الشَّرِيعَةِ فِي شَيْءٍ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِدْلَال فَيَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَةِ النَّصِّ فَنَقُولُ حُكْمُ نَصِّ الرِّبَا؛ وُجُوبُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْمِعْيَارِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْعَقْدِ ثُمَّ ضَرُورَةُ الْفَضْلِ؛ لِعَدَمِ تِلْكَ الْمُمَاثَلَةِ رِبًا؛ لِوُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ لَا كَمَا قَالَهُ الْخَصْمُ: إنَّ الْحُكْمَ حُرْمَةُ فَضْلٍ فِي الذَّاتِ ثُمَّ الْمُمَاثَلَةُ شَرْطٌ لِإِزَالَةِ فَضْلٍ حَرَامٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» فَقَدْ أَوْجَبَ الْمُمَاثَلَةَ لِجَوَازِ الْعَقْدِ ثُمَّ جَعَلَ الْفَضْلَ بَعْدَ تِلْكَ الْمُمَاثَلَةِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالْفَضْلُ رِبًا» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ». وَبِالْإِجْمَاعِ: الْمُسَاوَاةُ فِي الْكَيْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ اشْتِرَاطُ الْمُمَاثَلَةِ لِجَوَازِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَصِيرُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى فَيَكُونُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute