يَسْتَقْرِضُ إلَّا الْمُحْتَاجُ، وَقَدْ يُتَصَدَّقُ عَلَى غَيْرِ الْمُحْتَاجِ، ثُمَّ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ عَلَى الْغَاصِبِ، وَالْمُسْتَهْلِكِ لَهُ يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الْقَرْضِ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ احْتِمَالِ الزِّيَادَةِ، وَالنُّقْصَانِ، وَمَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ لَا يَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ فِيهِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ الْحَزْرُ وَالظَّنُّ، فَلَا تَثْبُتُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْقَرْضِ كَمَا لَا تَثْبُتُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي مَالِ الرِّبَا، وَأَصْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْقَرْضَ فِي مَعْنَى الْعَارِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَا يَسْتَرِدُّهُ الْمُقْرِضُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ عَيْنُ مَا دَفَعَ؛ إذْ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ كَانَ مُبَادَلَةُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً، وَذَلِكَ حَرَامٌ فَكُلُّ مَا يَحْتَمِلُ حَقِيقَةَ الْإِعَارَةِ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ لَا يَجُوزُ إقْرَاضُهُ؛ لِأَنَّ إعَارَتَهُ لَا تُؤَثِّرُ فِي عَيْنِهِ حَتَّى لَا تُمْلَكَ بِهِ الْعَيْنُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ اسْتِدَامَةَ الْيَدِ فِيهِ، فَكَذَلِكَ إقْرَاضُهُ لَا يُثْبِتُ مِلْكًا صَحِيحًا فِي عَيْنِهِ، وَكُلُّ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْإِعَارَةُ حَقِيقَةً مِمَّا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، فَإِقْرَاضُهُ وَإِعَارَتُهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ لَا تَنْفَصِلُ عَنْ عَيْنِهِ فَإِقْرَاضُهُ وَإِعَارَتُهُ تَمْلِيكٌ لِعَيْنِهِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْإِقْرَاضُ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَكِيلٍ، أَوْ مَوْزُونٍ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالْجَوْزِ، وَالْبَيْضِ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْمِثْلِ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي إقْرَاضِ الْخُبْزِ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَزْنًا، وَلَا عَدَدًا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يَجُوزُ وَزْنًا، وَلَا يَجُوزُ عَدَدًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ عَدَدًا قَالَ هِشَامُ: فَقُلْتُ لَهُ وَزْنًا فَرَأَيْتُهُ نَفَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَاسْتَعْظَمَهُ، وَقَالَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ؟ وَأَمَّا السَّلَمُ فِي الْخُبْزِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يُحْفَظُ عَنْهُمَا خِلَافُ ذَلِكَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ: يَجُوزُ عِنْدَهُمَا عَلَى قِيَاسَ السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ لِمَا عَلَّلَ بِهِ فِي النَّوَادِرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى حَدِّهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتَفَاوَتُ بِالْعَجْنِ وَالنُّضْجِ عِنْدَ الْخَبْزِ، وَيَكُونُ مِنْهُ الْخَفِيفُ، وَالثَّقِيلُ، وَفِي كُلِّ نَوْعٍ عُرْفٌ. لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْآخَرِ، وَمَا لَا يُوقَفُ عَلَى حَدِّهِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، ثُمَّ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ أَفْسَدَ أَبُو حَنِيفَةَ الِاسْتِقْرَاضَ فِيهِ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ أَوْسَعُ مِنْ الْقَرْضِ حَتَّى يَجُوزَ السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ السَّلَمُ فِي الْخُبْزِ لِهَذَا الْمَعْنَى؛ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ الِاسْتِقْرَاضُ أَوْلَى وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: الْخُبْزُ مَوْزُونٌ عَادَةً، وَالِاسْتِقْرَاضُ فِي الْمَوْزُونَاتِ، وَزْنًا يَجُوزُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ أَنَّ اسْتِقْرَاضَ اللَّحْمِ وَزْنًا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ الْخُبْزُ، وَلَا يَجُوزُ عَدَدًا؛ لِأَنَّهُ مُتَفَاوِتٌ، فِيهِ الْكَبِيرُ، وَالصَّغِيرُ وَمُحَمَّدٌ جَوَّزَ اسْتِقْرَاضَهُ عَدَدًا؛ لِأَنَّهُ صُنْعُ النَّاسِ، وَقَدْ اعْتَادُوهُ، وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ اسْتَقْرَضَ رَغِيفًا فَرَدَّ أَصْغَرَ مِنْهُ، أَوْ أَكْبَرَ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ عَمَلُ النَّاسِ قَالَ الْكَرْخِيُّ: وَإِنَّمَا اسْتَعْظَمَ مُحَمَّدٌ قَوْلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute