يُجْعَلُ الْعَقْدُ مُضَافًا لِلِانْعِقَادِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ لِيَقْتَرِنَ الِانْعِقَادُ بِالِاسْتِيفَاءِ فَيَتَحَقَّقُ بِهَذَا الطَّرِيقِ التَّمَكُّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إنَّ الْإِجَارَةَ عُقُودٌ مُتَفَرِّقَةٌ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسْبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ كَذَلِكَ
لِحَاجَةِ النَّاسِ
فَالْفَقِيرُ مُحْتَاجٌ إلَى مَالِ الْغَنِيِّ وَالْغَنِيُّ مُحْتَاجٌ إلَى عَمَلِ الْفَقِيرِ وَحَاجَةُ النَّاسِ أَصْلٌ فِي شَرْعِ الْعُقُودِ فَيُشْرَعُ عَلَى وَجْهٍ تَرْتَفِعُ بِهِ الْحَاجَةُ وَيَكُونُ مُوَافِقًا لِأُصُولِ الشَّرْعِ، ثُمَّ يَرِدُ هَذَا الْعَقْدُ تَارَةً عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَعَلَى الْعَمَلِ أُخْرَى وَفِي الْوَجْهَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ عَلَى وَجْهٍ تَنْقَطِعُ بِهِ الْمُنَازَعَةُ فَإِعْلَامُ الْمَنْفَعَةِ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ، أَوْ الْمَسَافَةِ، وَذِكْرُ الْمُدَّةِ لِبَيَانِ مِقْدَارِ الْعُقُودِ عَلَيْهِ لَا لِلتَّوْقِيتِ فِي الْعَقْدِ فَإِنَّ الْمَنَافِعَ لَمَّا كَانَتْ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَمِقْدَارُهَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ، أَوْ بِبَيَانِ الْمَسَافَةِ فَإِنَّ مِقْدَارَ السَّيْرِ وَالْمَشْيِ يَصِيرُ بِهِ مَعْلُومًا وَإِعْلَامُ الْعَمَلِ بِبَيَانِ مَحَلِّهِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهِ وَصْفٌ يُحْدِثُهُ فِي الْمَحَلِّ مِنْ قِصَارَةٍ، أَوْ دِبَاغَةٍ، أَوْ خِيَاطَةٍ فَيَخْتَلِفُ مِقْدَارُهُ بِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ؛ وَلِهَذَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِيَدِهِ إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ فَبَيْنَ النَّاسِ تَفَاوُتٌ فِي إقَامَةِ الْعَمَلِ بِأَيْدِيهِمْ وَكَمَا يَجِبُ إعْلَامُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ يَجِبُ إعْلَامُ الْبَدَلِ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الْكِتَابُ وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَسْتَامُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَنْكِحُ عَلَى خِطْبَتِهِ وَقَالَ: لَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبِيعُوا بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ».
وَهَذَا حَدِيثٌ طَوِيلٌ بَدَأَ بِبَعْضِهِ كِتَابُ النِّكَاحِ وَبِبَعْضِهِ كِتَابُ الْإِجَارَاتِ وَهُوَ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بِالْقَبُولِ وَبِالْعَمَلِ بِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِاسْتِيَامُ عَلَى سَوْمِ الْغَيْرِ.
وَهَذَا اللَّفْظُ يُرْوَى بِرِوَايَتَيْنِ بِكَسْرِ الْمِيمِ فَيَكُونُ نَهْيًا وَالنَّهْيُ مَجْزُومٌ وَلَكِنَّ الْمَجْزُومَ إذَا حُرِّكَ لِاسْتِقْبَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ حُرِّكَ بِالْكَسْرِ، وَبِرَفْعِ الْمِيمِ وَهُوَ نَهْيٌ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ وَأَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنْ النَّهْيِ هَذَا كَالْأَمْرِ فَإِنَّ أَبْلَغَ الْأَمْرِ مَا يَكُونُ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ إذَا اسْتَامَ عَلَى سَوْمِ الْغَيْر وَاشْتَرَى، أَوْ نَكَحَ عَلَى خِطْبَةِ الْغَيْرِ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يُوجِبُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا نَهْيٌ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِهِ وَهُوَ الْأَذَى وَالْوَحْشَةُ الَّذِي يَلْحَقُ صَاحِبَهُ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْعَقْدِ فِي شَيْءٍ فَيُوجِبُ الِاسْتِيَاءَ وَلَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، ثُمَّ هَذَا النَّهْيُ بَعْدَ مَا رَكَنَ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ، فَأَمَّا إذَا سَاوَمَهُ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَرْكَنْ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ فَلَا بَأْسَ لِلْغَيْرِ أَنْ يُسَاوِمَهُ وَيَشْتَرِيَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute