أَيْ أَلْزَمْتُهُ وَحَجَجْتُهُ
فَأَمَّا قَوْلُهُ: رَجُلٌ بَاعَ حُرًّا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ فَالْمُرَادُ صُورَةُ الْبَيْعِ لَا حَقِيقَتُهُ فَالْحُرُّ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِحَقِيقَةِ الْبَيْعِ وَبِبَيْعِ الْحُرِّ يَرْتَكِبُ الْكَبِيرَةَ وَلَكِنْ بِاسْتِعْمَالِ صُورَةِ الْبَيْعِ فَسُمِّيَ فِعْلُهُ بَيْعًا وَمَا يَقْبِضُ بِمُقَابَلَتِهِ ثَمَنًا مَجَازًا وَمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِحُرٍّ فَقَدْ اسْتَذَلَّهُ وَالْمُؤْمِنُ عَزِيزٌ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصْمٌ لِمَنْ يَسْتَذِلُّهُ وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بِقُوَّتِهِ وَضَعْفِ ذَلِكَ الْحُرِّ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصْمٌ عَنْ كُلِّ ضَعِيفٍ، وَهُوَ يَظْلِمُهُ بِاسْتِرْقَاقِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذُبُّ عَنْ كُلِّ مَظْلُومٍ حَتَّى يَنْتَصِفَ مِنْ ظَالِمِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَرَجُلًا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى عَمَلَهُ وَمَنَعَهُ أَجْرَهُ»؛ لِأَنَّهُ اسْتَذَلَّهُ بِالْعَمَلِ وَاسْتَزْبَنَهُ بِمَنْعِ الْأَجْرِ وَظَلَمَهُ فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَذُبُّ عَنْهُ وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ، وَأَنَّ الْأَجْرَ لَا يُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِهِ بِمَنْعِ الْأَجْرِ بَعْدَ الْعَمَلِ فَلَوْ كَانَ الْأَجْرُ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَمَا اشْتَرَطَ اسْتِيفَاءَ الْعَمَلِ لِذِكْرِ الْوَعِيدِ عَلَى مَنْعِ الْأَجْرِ
وَقَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَرَجُلٌ أَعْطَى بِي، ثُمَّ غَدَرَ» أَيْ أَعْطَى كَافِرًا أَمَانَ اللَّهِ، وَأَمَانَ رَسُولِهِ، ثُمَّ غَدَرَ وَهُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: فِي وَصِيَّتِهِ لِأُمَرَاءِ السَّرَايَا، وَإِنْ أَرَادُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ فَلَا تُعْطُوهُمْ وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ الْمَعْنَى، فَالْمُسْتَأْمَنُ يَكُونُ مُسْتَذَلًّا فِي دِيَارِنَا فَإِذَا غَدَرَهُ وَاسْتَحْقَرَهُ بَعْدَ إعْطَاءِ الْأَمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَدْ ظَلَمَهُ، وَعَنْ أَبِي نُعَيْمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ عَسْبِ التَّيْسِ وَكَسْبِ الْحَجَّامِ وَقَفِيزِ الطَّحَّانِ» وَالْمُرَادُ بِعَسْبِ التَّيْسِ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى الضِّرَابِ وَهُوَ إنْزَاءُ الْفُحُولِ عَلَى الْإِنَاثِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ؛ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ الْمَاءِ وَهُوَ مَهِينٌ لَا قِيمَةَ لَهُ وَالْعَقْدُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ وَهُوَ الْإِحْبَالُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى نَشَاطِ الْفَحْلِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ قَفِيزُ الطَّحَّانِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ طَحَّانًا لِيَطْحَنَ لَهُ حِنْطَةً مَعْلُومَةً بِقَفِيزٍ مِنْهَا، أَوْ مِنْ دَقِيقِهَا وَذَلِكَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فَاسِدٌ؛ فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ كَانَ شَرِيكًا بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْعَمَلِ، وَالْعَامِلُ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ لَا يُوجِبُ الْأَجْرَ، ثُمَّ الْأَجْرُ إمَّا أَنْ يَلْتَزِمَهُ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ فِي عَيْنٍ مَوْجُودٍ وَهُوَ مَا الْتَزَمَهُ فِي الذِّمَّةِ وَدَقِيقُ تِلْكَ الْحِنْطَةِ غَيْرُ مَوْجُودٍ وَقْتَ الْعَقْدِ.
فَأَمَّا كَسْبُ الْحَجَّامِ فَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ يَأْخُذُونَ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَيَقُولُونَ كَسْبُ الْحَجَّامِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِمُقَابَلَةِ مَا اسْتَخْرَجَ مِنْ الدَّمِ، أَوْ مَا يَشْتَرِطُ فَهُوَ مَجْهُولٌ فَيَكُونُ مُحَرَّمًا وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute