تُرْضِعَ صَبِيَّيْنِ لَهُمْ كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ عَنْهُمْ نِصْفَ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَجْرِ بِمُقَابَلَةِ إرْضَاعِ الصَّبِيَّيْنِ فَيَتَوَزَّعُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ يَقِلُّ فِي عَمَلِ الْإِرْضَاعِ أَوْ يَنْعَدِمُ وَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا؛ فَلِهَذَا يُرْفَعُ عَنْهُمْ نِصْفُ الْأَجْرِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرُوا ظِئْرَيْنِ يُرْضِعَانِ صَبِيًّا وَاحِدًا فَذَلِكَ جَائِزٌ وَيَتَوَزَّعُ الْأَجْرُ بَيْنَهُمَا عَلَى لَبَنِهِمَا فَإِنْ كَانَ لَبَنُهُمَا وَاحِدًا فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِنْ كَانَ مُتَفَاوِتًا فَبِحَسَبِ ذَلِكَ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ اللَّبَنُ وَأَنَّ الْبَدَلَ بِمُقَابَلَتِهِ فَإِنْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي حَقِّهَا لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلِلْأُخْرَى حِصَّتُهَا مِنْ الْأَجْرِ
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ بَنِي آدَمَ عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ عِنْدَنَا وَلَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهُ أَيْضًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَبَنٌ طَاهِرٌ أَوْ مَشْرُوبٌ طَاهِرٌ كَلَبَنِ الْأَنْعَامِ وَلِأَنَّهُ غِذَاءٌ لِلْعَالَمِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَسَائِرِ الْأَغْذِيَةِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَإِنَّ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ بِكَوْنِ الْعَيْنِ مُنْتَفَعًا بِهِ شَرْعًا وَعُرْفًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَيْنٌ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَالصِّبْغِ فِي عَمَلِ الصِّبَاغَةِ وَالْحِبْرِ فِي الْوَرَّاقَةِ وَالْحَرَضِ وَالصَّابُونِ فِي غَسِيلِ الثِّيَابِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لِلْبَيْعِ أَقْبَلُ مِنْهُ لِلْإِجَارَةِ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّ لَبَنَ الْآدَمِيَّةِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهُ كَالْبُزَاقِ وَالْمُخَاطِ وَالْعَرَقِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَالَ اسْمٌ؛ لِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِنَا بِهِ مِمَّا هُوَ غَيْرُنَا، فَأَمَّا الْآدَمِيُّ خُلِقَ مَالِكًا لِلْمَالِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَالًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَالِكًا لِلْمَالِ مُنَافَاةٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: ٢٩]، ثُمَّ لِأَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ مِنْ الْحُكْمِ مَا لِعَيْنِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ شَعْرَ الْآدَمِيِّ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إكْرَامًا لِلْآدَمِيِّ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَنَّ غَائِطَ الْآدَمِيِّ يُدْفَنُ وَمَا يَنْفَصِلُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ يُنْتَفَعُ بِهِ وَاللَّبَنُ جُزْءٌ مُتَوَلِّدٌ مِنْ عَيْنِ الْآدَمِيِّ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهِ وَهِيَ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ كَمَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالْمَاءِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْآدَمِيِّ وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الْأَصْلِ يَكُونُ بِصِفَةِ الْأَصْلِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْآدَمِيُّ مَالًا فِي الْأَصْلِ، فَكَذَلِكَ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنْ اللَّبَنِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ وَلَدَ الْأُضْحِيَّةِ يَثْبُتُ فِيهِ الْحُكْمُ تَبَعًا وَأَنَّ لَبَنَ الْأُضْحِيَّةِ إذَا حُلِبَتْ يُتَصَدَّقُ بِهِ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْأَمَةِ دُونَ لَبَنِ الْحُرَّةِ اعْتِبَارًا لِلَبَنِ الْوَلَدِ وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ؛ لِأَنَّ جَوَازَ بَيْعِ الْوَلَدِ بِصِفَةِ الرِّقِّ، فَأَمَّا الْآدَمِيُّ بِدُونِ هَذَا الْوَصْفِ لَا يَكُونُ مَحِلًّا لِلْبَيْعِ وَلَا رِقَّ فِي اللَّبَنِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيمَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ؛ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الضَّعْفِ وَلَا حَيَاةَ فِي اللَّبَنِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِي الْمَغْرُورِ لَمْ يُوجِبُوا قِيمَةَ اللَّبَنِ فَلَوْ كَانَ اللَّبَنُ مَالًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute