خَصْمَانِ فَإِنْ فَعَلَ مَعَ أَحَدِهِمَا فَهُوَ جَوْرٌ مِنْهُ، وَإِنْ فَعَلَهُ مَعَهُمَا رُبَّمَا عَجَزَ الْمُحِقُّ عَنْ إظْهَارِ حَقِّهِ فَذَهَبَ وَتَرَكَ حَقَّهُ.
(أَلَا تَرَى) إلَى قَوْله تَعَالَى {وَلَوْ كُنْت فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك} [آل عمران: ١٥٩]، ثُمَّ قَالَ فِي مَوَاطِنِ الْحَقِّ الَّتِي يُوجِبُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا الْأَجْرَ وَيَحُثُّ بِهَا عَلَى الذُّخْرِ يَعْنِي فِي مَجَالِسِ الْحُكْمِ فَالْحِلْمُ وَتَرْكُ الضَّجَرِ وَالْقَلَقِ وَإِظْهَارُ الْبِشْرِ مَعَ النَّاسِ مَحْمُودٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَفِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ الْبِشْرُ وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ أَوْلَى بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ ذَلِكَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ فَإِنَّهُ مَنْ يُخْلِصُ نِيَّتَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ عَلَى نَفْسَهُ يَكْفِهِ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ وَإِلَى نَحْوِهِ أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «مَنْ أَخْلَصَ سَرِيرَتَهُ أَخْلَصَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ»، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَتَزَيَّنُ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ خِلَافَهُ يَسُبُّهُ اللَّهُ يَعْنِي إذَا رَاءَى بِعَمَلِهِ وَالْمُرَاءَاةُ مَذْمُومَةٌ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَهُوَ فِي حَقِّ الْقَاضِي آكَدُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ الْمَرْءُ ذَلِكَ عِنْدَ حَاجَتِهِ، وَلِأَنَّهُ يُقَلَّدُ الْقَضَاءَ لِيَكُونَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَشْبَهَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ الْمُرَاءَاةِ وَالنِّفَاق وَقَوْله يَسُبُّهُ اللَّهُ أَيْ يَفْضَحُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ»، ثُمَّ قَالَ فَمَا ظَنُّك بِثَوَابِ غَيْرِ اللَّهِ فِي عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَعْنَاهُ أَيْ أَنَّ الْمُرَائِيَ بِعَمَلِهِ يَقْصِدُ اكْتِسَابَ مَحْمَدٍ، أَوْ مَنَالَ شَيْءٍ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَمَا يَفُوتُهُ بِهِ إذَا تَرَكَ الْإِخْلَاصَ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْعَاقِلُ إذَا قَابَلَ مَا هُوَ مَوْعُودٌ لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ التَّقْوَى وَالْإِخْلَاصِ بِمَا يَطْمَعُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ النَّاسِ تَرَجَّحَ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ، وَذَلِكَ عَاجِلُ الرِّزْقِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: ٢] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: ٣] وَالْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: ٥٦] أَيْ الْمُتَّقِينَ الْمُخْلِصِينَ فَالْحَدِيثُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَشْعِرَ التَّقْوَى فِيمَا يَفْعَلُ فَهُوَ مِلَاك الْأَمْرِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مِلَاكُ دِينِكُمْ الْوَرَعُ».
وَقَالَ «التَّقِيُّ مُلْجَمٌ» وَعَنْ عَامِرٍ قَالَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّنِي كَتَبْت كِتَابًا فِي الْقَضَاءِ مَا لَمْ آلُكَ وَنَفْسِي فِيهِ خَيْرًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتُبَ إلَى عُمَّالِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ يُوصِيهِمْ، وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَامِلَهُ بِالشَّامِ فَكَتَبَ إلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ بِهَذَا الْكِتَابِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ بَلْ بَالَغَ فِي اكْتِسَابِ الْخَيْرِ لِنَفْسِهِ وَلَهُ، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ الْزَمْ خَمْسَ خِصَالٍ يَسْلَمْ لَك دِينُك وَتَأْخُذْ فِيهِ بِأَفْضَلِ خَطِّك إذَا تَقَدَّمَ إلَيْك الْخَصْمَانِ فَعَلَيْك بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ وَالْيَمِينِ الْقَاطِعَةِ فَهُوَ الطَّرِيقُ لِلْقَاضِي الَّذِي لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَمَنْ تَمَسَّكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute