- رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقْضِي بِالْقَضَاءِ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَرْجِعُ عَنْهُ وَلَا يَرْجِعُ فِيمَا كَانَ قَضَى بِهِ يَعْنِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ كَانَ إذَا تَحَوَّلَ رَأْيُهُ بَنِي فِيمَا يُسْتَقْبَلُ عَلَى مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَلَمْ يَنْقُضْ مَا كَانَ قَضَى بِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ التَّابِعِيَّ إذَا أَدْرَكَ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَسَوَّغُوا لَهُ الِاجْتِهَادَ مَعَهُمْ فَإِنَّ رَأْيَهُ يُعَارِضُ رَأْيَهُمْ؛ لِأَنَّ شُرَيْحًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ قَاضِيًا فِي زَمَنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ثُمَّ كَانَ يَبْنِي الْقَضَاءَ عَلَى رَأْيِهِ وَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِمَا فِيمَا كَانَ يَبْدُو لَهُ، وَقَدْ سَوَّغُوا لَهُ ذَلِكَ حَتَّى كَانَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ لَهُ قُلْ لِي يَا أَيُّهَا الْعَبْدُ أَلَا تَنْظُرُ، وَقَدْ رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلَى قَوْلِ مَسْرُوقٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ نَحْرِ الْوَلَدِ وَعَنْ عَامِرٍ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْضِي بِالْقَضَاءِ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِخِلَافِهِ فَيُمْضِي مَا قَضَى بِهِ وَيَسْتَأْنِفُ الْقَضَاءَ»، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَقْضِي بِاجْتِهَادِهِ فِي مَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يُعَجِّلُ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ كَانَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ.
فَإِذَا انْقَطَعَ طَمَعُهُ عَنْ الْوَحْيِ فِيهِ قَضَى بِاجْتِهَادِهِ وَصَارَ ذَلِكَ شَرِيعَةً، ثُمَّ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ بِخِلَافِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَكُونُ نَاسِخًا لَهُ وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَنَظِيرُهُ أَمْرُ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَانَ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ وَكَانَ يَسْتَأْنِفُ الْقَضَاءَ بِالنَّاسِخِ وَلَا يُبْطِلُ مَا قَضَى بِهِ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ يُنْهِي مُدَّةَ الْحُكْمِ وَلَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَقًّا قَبْلَ نُزُولِ النَّاسِخِ وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُجْتَهَدَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَنْقُضُ مَا كَانَ قَضَى بِهِ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الرَّأْيَ لَا يَنْسَخُ الرَّأْيَ وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّمَا أَقْضِي لَهُ بِقِطْعَةِ مِنْ النَّارِ» مَعْنَى قَوْلِهِ أَلْحَنُ أَفْطَنُ وَأَقْدَرُ عَلَى الْبَيَانِ فَاللَّحْنُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْفَطِنَةُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ إنَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَحِلُّ مَا كَانَ حَرَامًا فَيَكُونُ حُجَّةً لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْمُرَادُ الْأَمْلَاكُ الْمُرْسَلَةُ وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْوَعِيدِ لِمَنْ يَدَّعِي الْبَاطِلَ وَيُقِيمُ عَلَيْهِ شُهُودَ الزُّورِ فَالْوَعِيدُ يَلْحَقُهُ بِذَلِكَ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ يَثْبُتُ لَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِسَبَبِهِ
قَالَ وَأَكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ لِلْخُصُومِ فِي الْقَضَاءِ كَرَاهَةَ أَنْ تَعْلَمَ الْخُصُومُ قَوْلَهُ فَتَحْتَرِزَ مِنْهُ بِالْبَاطِلِ لِحَدِيثِ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حِينَ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةِ الْحَبْسِ قَالَ إنَّمَا أَقْضِي وَلَسْت أُفْتِي، وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ النَّاسِ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ فِي الْمُعَامَلَاتِ أَصْلًا وَقَالُوا يُفْتِي فِي الْعِبَادَاتِ وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُفْتِيَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَقَالُوا لَا بَأْسَ بِهِ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute