وَقَالَ لَا تَسْتَعِينُوا بِهِمْ فِي شَيْءٍ وَأَبْعِدُوهُمْ وَأَذِلُّوهُمْ فَاِتَّخَذَ أَبُو مُوسَى كَاتِبًا غَيْرَهُ، وَلِأَنَّ مَا يَقُومُ بِهِ كَاتِبُ الْقَاضِي مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَهُمْ يَخُونُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي أُمُورِ الدِّينِ لِيُفْسِدُوهُ عَلَيْهِمْ (قَالَ) اللَّهُ تَعَالَى {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً} [آل عمران: ١١٨] الْآيَةَ، وَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ نَصْرَانِيًّا يُدْعَى بحنس. وَقَالَ لَوْ كُنْتَ عَلَى دِينِنَا لَاسْتَعَنَّا بِك فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِنَا، وَلِأَنَّ كَاتِبَ الْقَاضِي يُعَظَّمُ فِي النَّاسِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ تَعْظِيمِهِمْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَذِلُّوهُمْ وَلَا تَظْلِمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا كَاتِبًا مَمْلُوكًا وَلَا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ وَلَا أَحَدًا مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ»؛ لِأَنَّ الْكَاتِبَ يَنُوبُ عَنْ الْقَاضِي فِيمَا هُوَ مِنْ أَهَمِّ أَعْمَالِهِ فَلَا يَخْتَارُ لِذَلِكَ إلَّا مِنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ الْقَاضِي إلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى شَهَادَتِهِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، أَوْ يَحْتَاجُ بَعْضُ الْخُصُومِ إلَى شَهَادَتِهِ فَلَا يَخْتَارُ إلَّا مَنْ يَصْلُحُ لِلشَّهَادَةِ
وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُكَلِّفَ الْقَاضِي الطَّالِبَ صَحِيفَةً يَكْتُبُ فِيهَا حُجَّتَهُ وَشَهَادَةَ شُهُودِهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ لَهُ وَاَلَّذِي يَحِقُّ عَلَى الْقَاضِي مُبَاشَرَةُ الْقَضَاءِ. فَأَمَّا الْكِتَابَةُ لَيْسَتْ عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ اتِّخَاذُ الصَّحَائِفِ لِذَلِكَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ سَعَةٌ فَرَأَى أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَّصِلُ بِعَمَلِهِ وَكِفَايَتِهِ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَمَا يَتَّصِلُ بِهِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُجْعَلَ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ
وَعَلَى هَذَا أَجْرُ كَاتِبِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ إنْ جَعَلَ كِفَايَتَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِكِفَايَةِ الْقَاضِي لِيَحْتَسِبَ فِي عَمَلِهِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَلَى الْخُصُومِ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لَهُمْ عَمَلًا لَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْقَاضِي مُبَاشَرَتُهُ، وَكَذَلِكَ أَجْرُ قَاسِمِ الْقَاضِي.
وَإِذَا هَلَكَ ذَكَرَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ مِنْ دِيوَانِ الْقَاضِي فَشَهِدَ عِنْدَهُ كَاتِبَانِ لَهُ أَنَّ شُهُودَهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَقَدْ شَهِدُوا عِنْدَهُ بِكَذَا وَكَذَا لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا أَشْهَدَ الْكَاتِبَيْنِ عَلَى شَهَادَتِهِمَا وَلَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ. وَإِذَا لَمْ يُشْهِدْهُ عَلَى شَهَادَتِهِ
وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ بِمَحْضَرِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، أَوْ وَكِيلِهِ حَتَّى لَا يُغَيِّرَ شَيْئًا مِنْ مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ إنْ زَادُوا، أَوْ حَرَّفُوهُ طَعَنَ فِيهِ وَخَاصَمَ وَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي نَائِبُهُ وَكَوْنُ الْكَاتِبِ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ أَقْرَبَ إلَى النَّظَرِ لَهُ وَإِلَى نَفْيِ التُّهْمَةِ عَنْ الْقَاضِي، وَإِنْ كَتَبَهَا بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكْتُبُ مَا سَمِعَ وَهُوَ أَمِينٌ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ تَظْهَرْ خِيَانَتُهُ.
وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَعْرِضَ كِتَابَ الشَّهَادَةِ بَعْدَ مَا يَكْتُبُهَا عَلَى الشَّاهِدِ حَتَّى يَعْرِفَ هَلْ زَادَ شَيْئًا، أَوْ حَرَّفَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّ حُجَّةَ الْقَضَاءِ شَهَادَةُ الشُّهُودِ فَيَسْتَقْصِي فِي الِاحْتِيَاطِ فِيهِ، وَذَلِكَ فِي الْعَرْضِ عَلَى الشَّاهِدِ بَعْدَ مَا يَكْتُبُ؛ وَلِهَذَا قِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَاهِرًا فِي الْعَرَبِيَّةِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتُبَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ بِلَفْظِهِ وَلَا يُحَوِّلَهُ إلَى لُغَةٍ أُخْرَى مَخَافَةَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute