أَيْضًا وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ نَفْسَ الْقَذْفِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ كَمَا قَالَهُ الْخَصْمُ، وَلِأَنَّ الْقَذْفَ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَرُبَّمَا يَكُونُ حَسَبَهُ مِنْ الْقَاذِفِ إذَا عَلِمَ إضْرَارَهُ وَوَجَدَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهَدَاءِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ؛ وَلِهَذَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَكِنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ مَعَ عَجْزِهِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِأَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: ٤] فَالْمَعْطُوفُ عَلَى الشَّرْطِ شَرْطٌ، ثُمَّ الْعَجْزُ عَنْ ذَلِكَ يَظْهَرُ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ الْعَجْزُ عَنْ الدَّفْعِ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ الْقَذْفُ مُوجِبًا جَلْدًا مُؤْلِمًا مُحَرِّمًا لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: ٤] وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ وقَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ} [النور: ٤] مَعْطُوفٌ عَلَى الْجَلْدِ وَالْعَطْفُ لِلِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
فَإِذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ حَدًّا كَانَ الْمَعْطُوفُ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَغْرِيبُ عَامٍ إنَّهُ مِنْ تَمَامِ حَدِّ الْبِكْرِ، وَلَكِنْ نَقُولُ هُنَاكَ التَّغْرِيبُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَدًّا لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِغْرَاءِ عَلَى ارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ دُونَ الزَّجْرِ وَهُنَا رَدُّ الشَّهَادَةِ صَالِحٌ لِتَتْمِيمِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ مُؤْلِمٌ قَلْبَهُ كَمَا أَنَّ الْجَلْدَ مُؤْلِمٌ بَدَنَهُ فَفِيهِ مَعْنَى الزَّجْرِ، ثُمَّ حُرْمَةُ الْقَاذِفِ بِاللِّسَانِ وَرَدُّ شَهَادَتِهِ حَدٌّ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الْجَرِيمَةُ، وَذَلِكَ مَشْرُوعٌ كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْحَدِّ دَفْعُ الشَّيْنِ عَنْ الْمَقْذُوفِ، وَذَلِكَ فِي إهْدَارِ قَوْلِهِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَا رَدَّ الشَّهَادَةِ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلسَّارِقِ «اقْطَعُوهُ، ثُمَّ احْسِمُوا» فَإِنَّ الْحَسْمَ لَا يَكُونُ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ دَوَاءٌ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ، ثُمَّ حَرْفُ النَّفْيِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً} [النور: ٤] لَا يَمْنَعُ الْعَطْفَ فَقَدْ يُعْطَفُ النَّهْيُ عَلَى الْأَمْرِ كَمَا يَقُولُ لِغَيْرِهِ اجْلِسْ وَلَا تَتَكَلَّمْ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [النور: ٤] لَيْسَ بِعَطْفٍ بَلْ هُوَ ابْتِدَاءٌ بِحَرْفِ الْوَاوِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِحُسْنِ نَظْمِ الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: ٧] وقَوْله تَعَالَى {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} [الأعراف: ٢٦] وقَوْله تَعَالَى {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى: ٢٤] وَبَيَانُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَطْفٍ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: ٤] أَمْرٌ بِفِعْلٍ وَهُوَ خِطَابُ الْأُمَّةِ وقَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ} [النور: ٤] نَهْيٌ عَنْ فِعْلٍ وَهُوَ خِطَابُ الْأُمَّةِ أَيْضًا
وقَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [النور: ٤] إثْبَاتُ وَصْفٍ لَهُمْ فَكَيْفَ تَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ لِيَكُونَ عَطْفًا، وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [النور: ٤] بَيَانٌ لِجَرِيمَتِهِمْ وَإِزَالَةُ الْإِشْكَالِ أَنَّهُمْ لَمَّا أَدَّى اسْتَوْجَبُوا هَذِهِ الْعُقُوبَةَ، وَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ الْوَاجِبِ بِالْجَرِيمَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ عَطْفُ الْجَرِيمَةِ عَلَى الْوَاجِبِ بِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا عَطْفًا لَكَانَ مِنْ الْحَدِّ أَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْتَفِعَ بِالتَّوْبَةِ كَمَا لَا يَرْتَفِعَ بِالْحَدِّ فَلَا تَأْثِيرَ لِلتَّوْبَةِ فِي الْحَدِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute