للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ مَذْهَبُهُ هَذَا مِنْ أَقْوَى دَلِيلٍ لَنَا عَلَيْهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ لَا شَهَادَةً لَهُ فَلَا تُتَصَوَّرُ رَدُّ شَهَادَتِهِ وَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً} [النور: ٤] رَدٌّ لِشَهَادَتِهِ بَعْدَ وُجُودِهَا بِالْأَهْلِيَّةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ التَّوْبَةِ.

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَهُ أَعْمَى فَقَالَتْ أُخْتُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إنَّهُ أَعْمَى فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَدَّ شَهَادَتَهُ، وَبِهِ نَأْخُذُ وَكَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إنَّ شَهَادَةَ الْأَعْمَى مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يَقْدَحُ فِي الْوِلَايَةِ وَالْعَدَالَةِ فَبِاعْتِبَارِهِمَا يَجِبُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ بَيَانُهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَتَتَعَدَّى وِلَايَتُهُ إلَى غَيْرِهِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ التَّعَدِّي وَهُوَ أَهْلٌ لِلْعَدَالَةِ لِانْزِجَارِهِ عَمَّا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا فِي دِينِهِ؛ وَلِهَذَا قُبِلَتْ رِوَايَةُ الْأَعْمَى فَقَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مَنْ هُوَ أَعْمَى، وَقَدْ كَانَ فِي الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - مَنْ ابْتَلَى بِذَلِكَ فَدَلَّ أَنَّ الْأَعْمَى لَا يُقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ وَفَوَاتُ الْعَيْنَيْنِ كَفَوَاتِ الرِّجْلَيْنِ وَالْيَدَيْنِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ هَذَا كُلَّهُ، وَلَكِنْ نَقُولُ يُحْتَاجُ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَبَيْنَ مَنْ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَدِمَ آلَةَ التَّمْيِيزِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا بِالصَّوْتِ وَالنَّغْمَةِ فَتَتَمَكَّنُ مِنْ شَهَادَتِهِ شُبْهَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الْمَشْهُودِ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا لَا يَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ إلَّا بِالْمُعَايَنَةِ لَا شَهَادَةَ لِلْأَعْمَى. فَأَمَّا فِيمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى؛ لِأَنَّهُ فِي السَّمَاعِ كَالْبَصِيرِ، وَإِنَّمَا عَدَمُ آلَةِ الْعَيْنَيْنِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْإِشَارَةِ إلَى الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِدَلِيلٍ مُشْتَبَهٍ وَهُوَ الصَّوْتُ وَالنَّغْمَةُ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذَا تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ وَهُوَ بَصِيرٌ، ثُمَّ أَدَّاهَا وَهُوَ أَعْمَى تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ تَحَمُّلَهُ قَدْ صَحَّ بِطَرِيقٍ ثَبَتَ لَهُ الْعِلْمُ بِهِ، وَبَعْدَ صِحَّةِ الْعِلْمِ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِفْظِ وَالْأَعْمَى فِي ذَلِكَ كَالْبَصِيرِ وَيَحْتَاجُ إلَى الْأَدَاءِ بِاللِّسَانِ وَالْأَعْمَى فِي ذَلِكَ كَالْبَصِيرِ فَتَعْرِيفُ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ وَالْإِشَارَةِ إلَيْهِمَا بِالطَّرِيقِ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّهُ مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ يَكْفِي لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ

(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأَعْمَى يُبَاحُ لَهُ وَطْءُ زَوْجَتِهِ وَجَارِيَتِهِ وَلَا يُمَيِّزُهُمَا مِنْ غَيْرِهِمَا إلَّا بِالصَّوْتِ وَالنَّغْمَةِ، وَأَنَّ الْبَصِيرَ إذَا شَهِدَ عَلَى مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ يُقَامُ ذِكْرُ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ مَقَامَ الْإِشَارَةِ إلَى الْعَيْنِ فِي صِحَّةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ لَا يَسْتَفْسِرُ أَنَّهُ وَقْتَ التَّحَمُّلِ كَانَ بَصِيرًا، أَوْ أَعْمَى، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّ ذَلِكَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ حَتَّى لَمْ يَخْفَ عَلَى النِّسَاءِ، وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ يُحْتَمَلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>