أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَبَرَيْنِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ فِيهِ بِالْعَدَالَةِ وَحُسْنِ حَالِ الْمُخْبِرِ. فَإِذَا كَانَتْ عَدَالَتُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَظْهَرُ وَحَالُهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَحْسَنُ فَرُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ بَيِّنٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ رُجُوعَهُ تَوْبَةٌ وَاسْتِدْرَاكٌ لِمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ التَّفْرِيطِ وَالْقَاضِي يَتْبَعُ الظَّاهِرَ؛ لِأَنَّهُ مَا وَرَاءُ ذَلِكَ غُيِّبَ عَنْهُ. وَإِذَا كَانَ حَالُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ دُونَ حَالِهِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ فَرُجْحَانُ جَانِبِ الْكَذِبِ فِي الرُّجُوعِ أَبْيَنُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِالرُّجُوعِ قَاصِدٌ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمَقْضِيِّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ حَالُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ مِثْلَ حَالِهِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَعِنْدَ الْمُسَاوَاةِ يَتَرَجَّحُ الْأَوَّلُ بِالسَّبْقِ وَاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَإِنَّ الشَّيْءَ لَا يَنْقُضُهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ، أَوْ دُونَهُ وَيَنْقُضُهُ مَا هُوَ فَوْقَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا يَتَنَاوَلُ شَيْئًا إنَّمَا أَخْبَرَ بِخَبَرٍ، وَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْإِتْلَافِ بِدُونِ الْقَضَاءِ وَالْقَاضِي يَخْتَارُ فِي قَضَائِهِ فَذَلِكَ يَمْنَعُ إضَافَةَ الْإِتْلَافِ إلَى الشَّهَادَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الشَّاهِدُ شَيْئًا.
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ تُرَجِّحُ جَانِبَ الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ، وَلَكِنْ لَا يَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى التَّنَاقُضِ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ بِالرُّجُوعِ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ فَعَدَالَتُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ لَا تَعْدَمُ التَّنَاقُضَ وَكَمَا أَنَّ الْقَاضِي لَا يَقْضِي بِالْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ. فَكَذَلِكَ لَا يُنْقَضُ مَا قَضَاهُ بِالْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ. فَكَذَلِكَ لَا يُنْقَضُ مَا قَضَاهُ بِالْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ، ثُمَّ جَانِبُ الصِّدْقِ يُعَيَّنُ فِي الشَّهَادَةِ وَتَأَكُّدُ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فِي حَقِّ الْمَقْضِيِّ لَهُ فِيهِ بِتَعَيُّنِ جَانِبِ الْكَذِبِ فِي الرُّجُوعِ. وَإِذَا كَانَ تُهْمَةُ الْكَذِبِ عِنْدَ الرُّجُوعِ لِفِسْقِهِ يَمْنَعُ الْقَاضِي مِنْ إبْطَالِ الْقَضَاءِ فَتَعَيُّنُ الْكَذِبِ فِيهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْ إبْطَالِ الْقَضَاءِ أَوْلَى فَلَوْ أَبْطَلَ الْقَضَاءَ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى أَدَّى إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ فَيَرْجِعُ عَنْ هَذَا الرُّجُوعِ فَيَجِبُ إعَادَةُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ لِإِقْرَارِهِ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَنَّهُ أَتْلَفَ الْمَالَ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِ إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَالْإِتْلَافُ، وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسَبَبُ الْقَضَاءِ شَهَادَةٌ لِلشُّهُودِ، وَإِنَّمَا يُحَالُ بِالْحُكْمِ عَلَى أَصْلِ السَّبَبِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَلْجَأِ مِنْ جِهَتِهِمْ فَإِنَّ بَعْدَ ظُهُورِ عَدَالَتِهِمْ يَحِقُّ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ شَرْعًا، ثُمَّ السَّبَبُ إذَا كَانَ تَعَدِّيًا بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشَرَةِ فِي إيجَابِ ضَمَانِ الْمَالِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِالتَّعَدِّي فِي السَّبَبِ الَّذِي كَانَ مِنْهُمَا وَبِهَذَا السَّبَبِ سُلِّطَ الْمَشْهُودُ لَهُ عَلَى مَالِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَسَلَّطَا عَلَيْهِ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ لِأَنْفُسِهِمَا ضَمِنَا. فَكَذَلِكَ إذَا سَلَّطَا الْغَيْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْجِيرَانِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ وَالْخَسْرَانِ عَنْ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْقَضَاءِ بَلْ هُوَ مُبَاشِرٌ لِمَا فُرِضَ عَلَيْهِ ظَاهِرًا فَتَعَيُّنُ الشُّهُودِ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute