وَإِذَا كَانَتْ شَاةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا شَاتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِهَا، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا شَاتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ، وَقَالَ ذُو الْيَدِ لِلْقَاضِي: قَدْ قَضَيْتَ لِي بِالْوِلَادَةِ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ، وَإِلَّا أَعَدْتُهَا فَإِنَّهُ يَأْمُرُهُ أَنْ يُعِيدَ بَيِّنَتَهُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْبَيِّنَةِ الْأُولَى كَانَ عَلَى خَصْمِهِ خَاصَّةً فَيَجْعَلُ إقَامَتَهَا فِي حَقِّ الثَّانِي وُجُودًا وَعَدَمًا بِمَنْزِلَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ بِهِ لِلْمِلْكِ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ شَخْصٍ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ فِي حَقِّ شَخْصٍ آخَرَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ يَصِيرُ ذُو الْيَدِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ فَإِنْ أَعَادَ بَيِّنَةً قَضَى بِهَا لَهُ تَقْدِيمًا لِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ فِي النِّتَاجِ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْهَا قَضَى بِهَا لِلْمُدَّعِي فَإِنْ قَضَى بِهَا لِلْمُدَّعِي، ثُمَّ أَقَامَ الْمَقْضِيُّ لَهُ الْأَوَّلُ شُهُودَهُ عَلَى الْوِلَادَةِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْبَلُ بَيِّنَتَهُ وَيُبْطِلُ قَضَاءَهُ لِلْآخَرِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ فَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ جِهَةِ الْمَقْضِيِّ لَهُ.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَنْ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ يُثْبِتُ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّ هَذَا الْعَيْنَ حَادِثٌ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقَ هَذَا الْمِلْكِ عَلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يَصِرْ ذُو الْيَدِ بِهِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ أَخْطَأَ فِي قَضَائِهِ، وَأَنَّ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ لِذِي الْيَدِ فَلِهَذَا انْقَضَى قَضَاؤُهُ بِخِلَافِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَإِنْ (قِيلَ) الْقَضَاءُ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ مَعَ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عَلَى النِّتَاجِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْقَضَ قَضَاءُ الْقَاضِي لِمُصَادَقَتِهِ مَوْضِعَ الِاجْتِهَادِ.
(قُلْنَا) إنَّمَا يَكُونُ قَضَاؤُهُ عَنْ اجْتِهَادٍ إذَا كَانَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ قَائِمَةً عِنْدَهُ وَقْتَ الْقَضَاءِ فَتُرَجَّحُ بِاجْتِهَادِهِ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ مَا كَانَتْ قَائِمَةً عِنْدَ قَضَائِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَضَاؤُهُ عَلَى اجْتِهَادٍ بَلْ كَانَ لِعَدَمِ مَا يُدْفَعُ مِنْ ذِي الْيَدِ فَإِذَا أَقَامَ حُجَّةَ الدَّفْعِ انْتَقَضَ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَقَضَى الْقَاضِي بِهَا لَهُ، ثُمَّ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ يَقْضِي بِهَا لَهُ وَيَنْتَقِضُ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ لِمَا بَيَّنَّا.
قَالَ: أَمَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا قَضَى لَهُ بِهَا عَلَى هَذَا الرَّجُلِ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فِي وَجْهٍ مِنْهَا يَقْضِي الْقَاضِي بِهَا لِلْمُدَّعِي بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ إذَا شَهِدَ شُهُودُ الْمُدَّعِي أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا قَضَى لَهُ بِهَا مُطْلَقًا، وَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى هَذَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ ذَلِكَ الْقَاضِيَ إنَّمَا قَضَى لَهُ بِهَا بِشَهَادَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ ذِي الْيَدِ أَوْ وَهَبَهَا لَهُ فَلَا تَكُونُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى الْوِلَادَةِ فِي مِلْكِهِ مُبْطِلًا لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ بَلْ يَكُونُ مُقَرَّرًا لَهُ.
وَكَذَلِكَ إنْ فَسَّرَ شُهُودُ الْقَضَاءِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ فَهُوَ آكَدُ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute