بِالسُّوءِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ كَاذِبًا وَرُبَّمَا يَمْنَعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالصِّدْقِ وَفِي حَقِّ نَفْسِهِ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ لَا تَحْمِلُهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْكَذِبِ وَرُبَّمَا يَمْنَعُهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّدْقِ فَلِظُهُورِ دَلِيلِ الصِّدْقِ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ جُعِلَ إقْرَارُهُ حُجَّةً وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {بَلْ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: ١٤]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَيْ شَاهِدٌ بِالْحَقِّ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ شَرْعًا قَوْله تَعَالَى {وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: ٢٨٢] فَأَمْرُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْإِقْرَارِ بِمَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ وَالنَّهْيُ عَنْ الْكِتْمَانِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: ٢٨٢] {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: ٢٨٢] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ حُجَّةٌ فِي الْأَحْكَامِ «وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاعِزًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْعَسْفِ «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ حُجَّةً فِي الْحُدُودِ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ فِيمَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ثُمَّ الْإِقْرَارُ صَحِيحٌ بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْلُومُ؛ لِأَنَّهُ إظْهَارٌ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ وَقَدْ يَكُونُ مَا عَلَيْهِ مَجْهُولًا فَيَصِحُّ إظْهَارُهُ بِالْمَجْهُولِ كَالْمَعْدُومِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: ٨٦] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلشَّاهِدِ «إذَا رَأَيْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ» فَمَعَ الْجَهْلِ لَا حَاجَةَ إلَى الشَّهَادَةِ بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ أَدَائِهَا فَأَمَّا مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مُحْتَاجٌ إلَى إظْهَارِ مَا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ مَعْلُومًا كَانَ عِنْدَهُ أَوْ مَجْهُولًا فَقَدْ يَعْلَمُ أَصْلَ الْوُجُوبِ وَيَجْهَلُ قَدْرَ الْوَاجِبِ وَصِفَتَهُ وَلِهَذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالْمَجْهُولِ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ حَقًّا إلَّا بِانْضِمَامِ الْقَضَاءِ إلَيْهَا وَالْقَاضِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ إلَّا بِالْمَعْلُومِ فَأَمَّا الْإِقْرَارُ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ وَإِذَا احْتَمَلَ بِالْمَجْهُولِ أَمْكَنَ إزَالَةُ الْجَهَالَةِ بِالْإِجْبَارِ عَلَى الْبَيَانِ فَلِهَذَا صَحَّ الْإِقْرَارُ وَلِهَذَا لَا يُعْمَلُ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ وَيُعْمَلُ بِالرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ رَجُلٌ قَالَ غَصَبْتُ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا فَالْإِقْرَارُ صَحِيحٌ وَيَلْزَمُهُ مَا بَيَّنَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ تَبْيِينِ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ لِأَنَّ الشَّيْءَ حَقِيقَةً اسْمٌ لِمَا هُوَ مَوْجُودٌ مَالًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ إلَّا أَنَّ لَفْظَ الْغَصْبِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَالِيَّةِ فِيهِ فَالْغَصْبُ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى مَا هُوَ مَالٌ وَمَا ثَبَتَ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فَهُوَ كَالْمَلْفُوظِ كَقَوْلِهِ اشْتَرَيْتُ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا يَكُونُ إقْرَارًا بِشِرَاءِ مَا هُوَ مَالٌ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِيهِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى لَوْ فَسَّرَهُ بِحَبَّةِ حِنْطَةٍ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْغَصْبِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute