للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْوَكَالَةُ فِي كُلِّ خُصُومَةٍ جَائِزَةٌ، مَا خَلَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ أَوْ سِلْعَةً تُرَدُّ مِنْ عَيْبٍ، وَالْمُرَادُ التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَإِنَّ التَّوْكِيلَ بِاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ، وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا تُسْتَوْفَى بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ فِي ذَلِكَ مِنْ ضَرْبٍ وَشِبْهِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تُسْتَوْفَى فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، وَالشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ، وَكَذَلِكَ التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لَا يَجُوزُ، وَلَا يُسْتَوْفَى فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْتَوْفِيهِ الْوَكِيلُ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ الْعِبَادِ، وَمَبْنَى حُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَى الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ لِصَاحِبِ الْقِصَاصِ أَنْ لَا يَحْضُرَ بِنَفْسِهِ وَيُوَكِّلَ بِاسْتِيفَائِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذِهِ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَلَا تُسْتَوْفَى بِمَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ كَالْحُدُودِ، وَلِهَذَا لَا تُسْتَوْفَى فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، وَلَا بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ اسْتَوْفَى فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ كَانَ اسْتِيفَاءً مَعَ تَمَكُّنِ شَهَادَةِ الْعَفْوِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ عَفَا بِنَفْسِهِ، وَالْوَكِيلُ لَا يَشْعُرُ بِهِ، وَلِهَذَا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَفْوِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ الْمُوَكِّلُ إلَى ذَلِكَ، إمَّا لِعِلَّةِ هِدَايَتِهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ، أَوْ لِأَنَّ قَلْبَهُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، فَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الِاسْتِيفَاءِ عِنْدَ حَضْرَتِهِ اسْتِحْسَانًا.

فَأَمَّا قَوْلُهُ أَوْ سِلْعَةً تُرَدُّ بِالْعَيْبِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ: أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ فِي هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا أَثْبَتَ الْعَيْبَ فَادَّعَى الْبَائِعُ رِضَا الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ، فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي فَيَحْلِفَ بِاَللَّهِ مَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ يَقْبِضُ الدَّيْنَ إذَا ادَّعَى الْمَطْلُوبُ أَنَّ الطَّالِبَ قَدْ اسْتَوْفَى دَيْنَهُ أَوْ أَبْرَأَ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: ادْفَعْ الْمَالَ إلَى الْوَكِيلِ وَأَنْتَ عَلَى خُصُومَتِك فِي اسْتِحْلَافِ الْمُوَكِّلِ إذَا حَضَرَ، وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ الدَّيْنَ حَقٌّ ثَابِتٌ بِنَفْسِهِ إذْ لَيْسَ فِي دَعْوَى الِاسْتِيفَاءِ وَالْإِبْرَاءِ مَا يُنَافِي أَصْلَ حَقِّهِ، لَكِنَّهُ يَدَّعِي إسْقَاطَهُ بَعْدَ تَقْرِيرِ السَّبَبِ الْمُوجَبِ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْوَكِيلِ الِاسْتِيفَاءُ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْمُسْقَطُ، فَأَمَّا فِي الْعَيْبِ إنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ وَقْتَ الْبَيْعِ، يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّهِ فِي الرَّدِّ أَصْلًا، فَالْبَائِعُ لَيْسَ يَدَّعِي مُسْقَطًا بَلْ زَعَمَ أَنَّ حَقَّهُ فِي الرَّدِّ لَمْ يَثْبُتْ أَصْلًا، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ وَيَحْلِفَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الرَّدِّ عَلَيْهِ.

وَالثَّانِي - أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخٌ لِلْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ إذَا انْفَسَخَ فَلَا يَعُودُ فَلَوْ أَثْبَتْنَا حَقَّ الرَّدِّ عَلَيْهِ تَضَرَّرَ الْخَصْمُ بِانْفِسَاخِ عَقْدِهِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا قَضَاءُ الدَّيْنِ فَلَيْسَ فِيهِ فَسْخُ عَقْدٍ، وَإِذَا حَضَرَ الْمُوَكِّلُ فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ تَوَصَّلَ الْمَطْلُوبُ إلَى حَقِّهِ، فَلِهَذَا أُمِرَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ.

وَفِي الْوَكِيلِ يَأْخُذُ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ إذَا ادَّعَى الْخَصْمُ

<<  <  ج: ص:  >  >>