لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً عَلَى الْمُوَكِّلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ، وَإِنَّمَا لَا يَعْزِلُهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ لِدَفْعِ الْغُرُورِ، لَا لِحَقٍّ ثَابِتٍ لِلْخَصْمِ فِي مَحَلٍّ، وَلَوْ كَانَ ذَهَبَ عَقْلُهُ سَاعَةً، أَوْ جُنَّ سَاعَةً فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ النَّوْمِ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ رَأْيُ الْمُوَكِّلِ، فَلَا يَصِيرُ مُوَلًّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِيهِ، وَاخْتَلَفَتْ فِيهِ أَلْفَاظُ الْكِتَابِ، فَذَكَرَ فِي بَابِ وَكَالَةِ الْمُكَاتَبِ، الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي جُنُونِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ: أَنَّ فِي الْقِيَاسِ تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَبْطُلُ، وَفِي بَابِ الْوَكَالَةِ فِي الطَّلَاقِ ذَكَرَ الْقِيَاسَ فِي الْمُتَطَاوِلِ، وَقَالَ: " لَا تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِجُنُونِ الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ تَطَاوَلَ لِبَقَاءِ الْمَحَلِّ الَّذِي تَعَلَّقَتْ الْوَكَالَةُ بِهِ عَلَى حَقِّ الْمُوَكِّلِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ " ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ الْحَدَّ الْفَاصِلَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.
وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: " إذَا جُنَّ شَهْرًا فَهُوَ مُتَطَاوِلٌ " ثُمَّ رَجَعَ وَقَدَّرَ الْمُتَطَاوِلَ بِجُنُونِ سَنَةٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَدَّرَ الْمُتَطَاوِلَ بِأَكْثَرِ السَّنَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ بِأَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الْجُنُونَ إذَا زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ كَانَ مُسْقِطًا لِقَضَاءِ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ النَّوْمِ، وَالْقَلِيلُ مِنْهُ كَالدَّوَامِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْجُنُونِ وَبَيْنَ النَّوْمِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُتَطَاوِلٌ، وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوَّلًا: أَنَّ الشَّهْرَ فِي حُكْمِ الْمُتَطَاوِلِ، وَمَا دُونَهُ فِي حُكْمِ الْقَرِيبِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ حَقَّ فُلَانٍ عَاجِلًا أَوْ عَنْ قَرِيبٍ فَقَضَاهُ فِيمَا دُونَ الشَّهْرِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ - وَلَوْ لَمْ يَقْضِهِ حَتَّى مَضَى الشَّهْرُ - كَانَ حَانِثًا، وَلِأَنَّ الْجُنُونَ إذَا اسْتَوْعَبَ الشَّهْرَ كُلَّهُ أَسْقَطَ قَضَاءَ الصَّوْمِ بِخِلَافِ دُونِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَدَّرَهُ بِالسَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَسْقُطُ الْعِبَادَاتُ إلَّا بِاسْتِغْرَاقِ الْجُنُونِ سَنَةً كَامِلَةً، فَإِنَّ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا يَكُونُ التَّقْرِيرُ فِيهَا بِحَوْلٍ كَالزَّكَاةِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجْعَلُ أَكْثَرَ الْحَوْلِ كَجَمِيعِهِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ حَتَّى قَالَ: " إذَا جُنَّ فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ " فَلِهَذَا قَالَ: " الْمُتَطَاوِلُ مَا يَكُونُ فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ " وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ يُعْتَبَرُ كَمَالُ السَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُوَافِقْهُ فَصْلٌ مِنْ فُصُولِ السَّنَةِ وَلَمْ يُفِقْ، عَرَفْنَا أَنَّ هَذِهِ آفَةٌ فِي أَصْلِ الْعَقْلِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ، وَهُوَ قِيَاسُ أَجَلِ الْعِنِّينِ، أَيْ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِ بِالسَّنَةِ الْكَامِلَةِ.
وَتَوْكِيلُ الصَّبِيِّ رَجُلًا بَاطِلٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُنِيبُ نَفْسَهُ مَنَابَ غَيْرِهِ فِيمَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ، وَالصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِنَفْسِهِ فَلَا يُوَكِّلُ غَيْرَهُ، فَأَمَّا الْمَأْذُونُ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ.
وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ أَوْ امْرَأَتَهُ بِالْخُصُومَةِ، ثُمَّ أَعْتَقَ عَبْدَهُ، أَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَهُمَا عَلَى وَكَالَتِهِمَا؛ لِأَنَّ مَا عَرَضَ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْوَكَالَةِ فَلَا يُنَافِي بَقَاءَهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute