فَقَالَ تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ فِي قِصَرِ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْ الْعَبْدِ دُونَ الْقَضَاءِ بِالْعِتْقِ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْعِتْقَ، وَمِنْ صَيْرُورَتِهِ قِصَرُ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْ قَبْضِهِ وَإِجَازَتِهِ، وَالْوَكِيلُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي أَحَدِهِمَا، وَهُوَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَكِنَّهُ خَصْمٌ فِي إثْبَاتِ قِصَرِ يَدِهِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ قِصَرِ يَدِهِ الْقَضَاءُ بِالْعِتْقِ عَلَى الْغَائِبِ؛ فَلِهَذَا قُلْنَا الْبَيِّنَةُ فِي قِصَرِ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ وَادَّعَى أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً أَجَّلَهُ الْقَاضِي ثَلَاثًا، فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً وَإِلَّا دَفَعَهُ إلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِ الشُّهُودِ إلَّا بِمُهْلَةٍ، فَلَوْ لَمْ يُهْمِلْهُ الْقَاضِي أَدَّى إلَى الْإِضْرَارِ بِالْعَبْدِ، وَمُدَّةُ الثَّلَاثِ حَسَنٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَإِبْلَاغًا لِلْعُذْرِ كَمَا اشْتَرَطْتُ فِي الْخِيَارِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ بِنَقْلِ امْرَأَتِهِ إلَيْهِ فَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ: أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، أَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَارٍ فَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ: أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ بِقَبْضِ الْعَيْنِ، وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ خَصْمًا فِيمَا يَدَّعِي عَلَى الْمُوَكِّلِ مِنْ شِرَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ خَصْمٌ فِي قِصَرِ يَدِهِ عَنْهُ، فَتُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَلَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ فَأَقَامَ الْغَرِيمُ الْبَيِّنَةَ: أَنَّهُ قَدْ أَوْفَاهُ الطَّالِبَ، قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ عِنْدَهُ يَمْلِكُ خُصُومَتَهُ فَيَكُونُ خَصْمًا عَنْ الْوَكِيلِ فِيمَا يَدَّعِي عَلَيْهِ مِنْ وُصُولِ الْحَقِّ إلَيْهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ كَالْوَكِيلِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ فِي أَنَّهُ نَائِبٌ مَحْضٌ، فَتَقْصُرُ وَكَالَتُهُ عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ، فَلَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَلَا يَكُونُ خَصْمًا فِيمَا يَدَّعِي عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَقَاسَاهُ بِالرَّسُولِ فَإِنَّ الرَّسُولَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لَا يَمْلِكُ، فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَلْحَقُهُ شَيْءٌ مِنْ الْعُهْدَةِ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: " الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ وَكِيلٌ بِالْمُبَادَلَةِ فَيَكُونُ خَصْمًا كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ " وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا، فَكَأَنَّ الْمُوَكِّلَ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَمْلِكَ الْمَطْلُوبُ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِمَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ شَيْءٌ، ثُمَّ قَبْضُ الدَّيْنِ مِنْ وَجْهٍ مُبَادَلَةٌ، وَمِنْ وَجْهٍ كَأَنَّهُ غَيْرُ حَقِّ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ مِنْ الدُّيُونِ مَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ فَلِاعْتِبَارِ شَبَهِهِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ قُلْنَا: " لَا تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ فِي الْمَقْبُوضِ " وَلِاعْتِبَارِ شَبَهِهِ بِالْمُبَادَلَةِ قُلْنَا: " يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ " وَلَيْسَ هَذَا كَالرَّسُولِ فَإِنَّ الرَّسُولَ فِي الْبَيْعِ لَا يُخَاصِمُ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، فَكَذَلِكَ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الرِّسَالَةَ غَيْرُ الْوَكَالَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولًا إلَى الْخَلْقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة: ٤١] وَنَفَى عَنْهُ الْوَكَالَةَ بِقَوْلِهِ {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: ٦٦] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: ١٠٧] فَظَهَرَتْ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute