صَحِيحٌ إذَا كَانَ مُقَيَّدًا، وَهَذَا مُقَيَّدٌ، إمَّا لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِكَوْنِهِ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْإِثْبَاتِ لَهُ عَلَى فُلَانٍ دُونَ الْإِثْبَاتِ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ، أَوْ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْخُصُومَةِ فَقَدْ يَقْدِرُ الْوَكِيلُ عَلَى دَفْعِ خُصُومَةِ إنْسَانٍ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ خُصُومَةِ غَيْرِهِ، لِكَثْرَةِ هِدَايَتِهِ فِي وُجُوهِ الْحِيَلِ.
وَالْقَاضِي فِي التَّوْكِيلِ لِنَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ مِنْ الرَّعَايَا؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي حُقُوقِ نَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بَيْنَ وَكِيلِهِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ لِوَكِيلِهِ بِمَنْزِلَةِ قَضَائِهِ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ قَاضِيًا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَوْقَ وِلَايَةِ الشَّهَادَةِ، وَإِذَا كَانَ الْمَرْءُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ شَاهِدًا فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ قَاضِيًا، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ مِنْ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ ابْنِهِ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لَهُ وَلَا لِوَكِيلِهِ، وَكُلُّ مَنْ جَازَتْ شَهَادَتُهُ لَهُ جَازَ قَضَاؤُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ أَقْرَبَ الْأَسْبَابِ إلَى الْقَضَاءِ الشَّهَادَةُ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ بِالشَّهَادَةِ وَالشَّهَادَةُ تَصِحُّ بِالْقَضَاءِ، فَإِذَا جَعَلَ فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ مَنْ سُمِّيَا بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقَضَاءِ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْقَاضِي، وَأَوْصَى إلَى رَجُلٍ آخَرَ لَمْ يَجُزْ قَضَاءُ الْقَاضِي لِذَلِكَ الْمَيِّتِ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ؛ لِأَنَّ لَهُ نَصِيبًا فِيمَا يَقْضِي بِهِ لِلْمَيِّتِ مِنْ الْمَالِ فَكَانَ قَاضِيًا لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ، فَكَمَا لَا يَقْضِي عِنْدَهُ دَعْوَى الْوَصِيِّ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ دَعْوَى الْوَكِيلِ لِلْوَصِيِّ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْقَاضِي أَحَدَ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ وَلَمْ يُوصِ لَهُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ قَاضٍ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ أَوْ الْوَارِثُ ابْنَ الْقَاضِي أَوْ امْرَأَتَهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلشَّهَادَةِ فِيمَا يَدَّعِي لِلْمَيِّتِ مِنْ الْمَالِ فَكَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لِلْقَاضِي عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الْقَضَاءِ يُمَهِّدُ مَحَلَّ حَقِّهِ، فَإِنَّهُ إذَا أَثْبَتَ بِقَضَائِهِ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ اسْتَبَدَّ بِاسْتِيفَائِهِ بِدَيْنِهِ، فَكَانَ قَاضِيًا لِنَفْسِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَلَوْ اخْتَصَمَ رَجُلَانِ فِي شَيْءٍ فَوَكَّلَ أَحَدُهُمَا ابْنَ الْقَاضِي أَوْ عَبْدَهُ أَوْ مُكَاتَبَهُ لَمْ يَجُزْ قَضَاءُ الْقَاضِي لِلْوَكِيلِ عَلَى خَصْمِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ بِقَضَائِهِ يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ، فَإِذَا كَانَ عَبْدَهُ أَوْ ابْنَهُ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ لَهُ.
وَلَوْ قَضَى لِلْخَصْمِ عَلَى الْوَكِيلِ جَازَ بِمَنْزِلَةِ قَضَائِهِ عَلَى ابْنِهِ أَوْ عَبْدِهِ، إذْ لَا تُهْمَةَ فِي قَضَائِهِ عَلَى ابْنِهِ، وَإِنَّمَا التُّهْمَةُ فِي قَضَائِهِ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَهَادَتَهُ عَلَى ابْنِهِ مَقْبُولَةٌ بِخِلَافِ شَهَادَتِهِ لَهُ.
وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِالْخُصُومَةِ، ثُمَّ وُلِّيَ الْوَكِيلُ الْقَضَاءَ لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَدَّعِيه لِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ قَاضِيًا، فَكَذَلِكَ فِيمَا هُوَ وَكِيلٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ يَثْبُتُ لَهُ فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ مَكَانَهُ وَكِيلًا آخَرَ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ مَا رَضِيَ بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ وَلَكِنَّهُ لَوْ عُزِلَ عَنْ الْقَضَاءِ كَانَتْ وَكَالَتُهُ عَلَى حَالِهَا، لِأَنَّ نَفَاذَ الْقَضَاءِ لَا يُنَافِي الْوَكَالَةَ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ الْقَضَاءِ بِهَا، كَمَا لَا يُنَافِي أَصْلَ حُقُوقِهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute