مِنْ الْبَيْعِ إلَّا وَيُقَابِلُهُ جُزْءٌ مِنْ الثَّمَنِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ، وَالشُّفْعَةُ فِي الْهِبَاتِ لَا تَثْبُتُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَبِيعَ فَبَاعَ بِالْمُحَابَاةِ يَحْنَثُ، وَكَمَا يُرَاعَى الْعُرْفُ فِي الْوَكَالَاتِ يُرَاعَى فِي الْأَثْمَانِ، ثُمَّ جَعَلَ هَذَا بَيْعًا مُطْلَقًا فِي الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ فِي الْوَكَالَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ مُشْتَرَكٌ، فَقَدْ يَبِيعُ الْمَرْءُ الشَّيْءَ لِلْبِرِّ فِيهِ، وَفِي هَذَا لَا يُنَافِي قِلَّةَ الثَّمَنِ وَكَثْرَتَهُ، وَقَدْ يَبِيعُهُ لِلِاسْتِرْبَاحِ فَعِنْدَ إطْلَاقِ الْأَمْرِ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْمَقْصُودَيْنِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ تُخَصِّصُهُ التُّهْمَةُ، وَفِي الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ التُّهْمَةُ مُمْكِنَةٌ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا لَمْ يُعْجِبْهُ أَخْذُهُ فِي يَمِينِهِ أَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَهُ إلَى الْآمِرِ، وَلَا تَتَمَكَّنُ مِثْلُ هَذِهِ التُّهْمَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالتَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ يُلَاقِي مِلْكَ الْغَيْرِ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ مُطْلَقَةٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لِيَنْظُرَ إلَى إطْلَاقِ أَمْرِهِ، وَأَمْرُهُ فِي الْبَيْعِ يُلَاقِي مِلْكَ نَفْسِهِ، وَلَهُ وِلَايَةٌ مُطْلَقَةٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَلَوْ اعْتَبَرْنَا الْعُمُومَ فِي جَانِبِ الْوَكِيلِ اشْتَرَى ذَلِكَ الْمَتَاعَ بِجَمِيعِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعُمُومُ حُمِلَ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ، وَفِي التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ لَا يُعَدُّ، وَتَصَرُّفُهُ مَا أُمِرَ بِبَيْعِهِ، فَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ إطْلَاقِ الْأَمْرِ فِيهِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ إذَا بَاعَ بِعَرَضٍ، فَإِنْ كَانَ يُسَاوِيه جَازَ وَإِلَّا فَلَا، وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّهُ فِي جَانِبِ الْعَرْضِ مُشْتَرٍ فَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يَشْتَرِي لِلْآمِرِ بِالْمُحَابَاةِ الْفَاحِشَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِي الْبَيْعِ بِالنَّسِيئَةِ فَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنْ قُبِلَ هَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا إذَا بَاعَهُ بِأَجَلٍ مُتَعَارَفٍ، فَأَمَّا بِأَجَلٍ غَيْرِ مُتَعَارَفٍ كَعِشْرِينَ سَنَةً وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّ الْأَجَلَ الْمُتَعَارَفَ كَالْغَبْنِ الْيَسِيرِ، وَمَا لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ كَالْغَبْنِ الْفَاحِشِ.
وَلَوْ وَكَّلَهُ، بِأَنْ يُعَاوِضَ عَبْدَهُ هَذَا فُلَانًا بِأَمَتِهِ هَذِهِ فَبَاعَ فُلَانٌ أُمَّتَهُ تِلْكَ مِنْ رَجُلٍ جَازَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُعَاوِضَ بِهَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُوَكِّلِ تَحْصِيلُ الْأَمَةِ لِنَفْسِهِ بِمُقَابَلَةِ الْعَبْدِ، وَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ بِتَصَرُّفِهِ مَعَ الثَّانِي، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مِنْ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ هُنَاكَ الثَّمَنُ، وَإِنَّمَا رَضِيَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ لَهُ فِي ذِمَّةِ مَنْ سَمَّاهُ وَيَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي مَلَاءَةِ الذِّمَّةِ؛ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ.
قَالَ: وَلِلْوَكِيلِ بِالْإِجَارَةِ أَنْ يُؤَاجِرَ بِالنَّقْدِ، وَالْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ، إذَا كَانَ مَعْلُومًا مَوْصُوفًا، وَبِالْمُعَيَّنِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَبِالْمَوْصُوفِ الْمُؤَجَّلِ مِنْ الثِّيَابِ.
أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ، وَهُمَا يُفَرِّقَانِ وَيَقُولَانِ بِتَخْصِيصِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ بِالنَّقْدِ، بِدَلِيلِ الْعُرْفِ، وَلَا عُرْفَ هُنَا فَإِنَّ الْأَرْضَ تُؤَاجَرُ بِغَيْرِ النَّقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُدْفَعُ مُزَارَعَةً، وَهِيَ إجَارَةٌ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute