يَقُولُ: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ.» وَالْمِنْحَةُ نَوْعٌ مِنْ الْعَارِيَّةِ، وَلَكِنْ فِيهَا مَعْنَى الْعَطِيَّةِ فَإِنَّ مَنْ أَعَارَ غَيْرَهُ شَاةً أَوْ نَاقَةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا؛ يُسَمِّي ذَلِكَ مِنْحَةً وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ مَنْ مَنَحَ غَيْرَهُ شَيْئًا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ كَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ يَكُونُ عَارِيَّةً وَلَا يَكُونُ مِنْحَةً، وَإِنْ مَنَحَهُ شَيْئًا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ؛ يَكُونُ هِبَةً لَا عَارِيَّةً، وَالْإِعَارَةُ فِي مِثْلِهِ تَكُونُ قَرْضًا. وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ رَدَّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَرَدَّ الْمِنْحَةِ عَلَى الْمَمْنُوحِ لَهُ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ النَّقْلِ حَصَلَتْ لَهُ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ يُسْتَحَقُّ عَلَى الْمَدْيُونِ بِقَوْلِهِ: وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ. وَمَقْصُودُهُ آخِرَ الْحَدِيثِ - وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ -: مَعْنَاهُ الْكَفِيلُ ضَامِنٌ أَيْ ضَامِنٌ لِمَا الْتَزَمَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ تَسْلِيمِ نَفْسٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِهِ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَى أَجَلٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إذَا حَلَّ أَجَلُ مَالِكَ عَلَى فُلَانٍ فَلَمْ يُوفِك مَالَك؛ فَهُوَ عَلَيَّ، أَوْ قَالَ: إنْ حَلَّ فَهُوَ عَلَيَّ؛ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا قَالَ؛ لِأَنَّ حُلُولَ الْمَالِ عَلَى الْأَصِيلِ سَبَبٌ لِتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ عَلَيْهِ. وَالْكَفَالَةُ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ فَيَجُوزُ إضَافَتُهَا إلَى وَقْتٍ تُوجَدُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ وَتَعْلِيقُهَا بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إنْ مَاتَ فُلَانٌ قَبْلَ أَنْ يُوفِيَكَ مَالَك فَهُوَ عَلَيَّ؛ لِأَنَّ مَوْتَ الْمَدْيُونِ سَبَبٌ لِحُلُولِ الْأَجَلِ وَتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ.
فَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلَّقَهُ بِمَوْتِ رَجُلٍ آخَرَ وَإِذَا ادَّعَى الْكَفِيلُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ بَعْدَ حُلُولِ الْمَالِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ قَدْ كَانَ قَضَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ عَلَى الْكَفِيلِ قَدْ تَقَرَّرَ وَقَدْ يَدَّعِي مَانِعًا مَا لَمْ يَظْهَرْ وَهُوَ قَضَاءُ الْمَطْلُوبِ حَقَّهُ وَلَوْ ادَّعَى الْمَطْلُوبُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِحُجَّةٍ فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَاهُ الْكَفِيلُ وَلَوْ كَانَ حَالًّا فَقَالَ: إنْ لَمْ يُعْطِك فُلَانٌ مَالَك؛ فَهُوَ عَلَيَّ فَتَقَاضَى الطَّالِبُ الْمَطْلُوبَ فَلَمْ يُعْطِهِ سَاعَةَ تَقَاضَاهُ فَهُوَ لَازِمٌ الْكَفِيلَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ امْتِنَاعُ الْمَطْلُوبِ مِنْ الْإِعْطَاءِ.
وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّقَاضِي فَكَمَا تَقَاضَاهُ وَامْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ فَقَدْ وَجَدَ شَرْطَ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْكَفِيلِ مِنْ هَذَا دَفْعُ مُؤْنَةِ كَثْرَةِ التَّقَاضِي عَنْ الطَّالِبِ فَإِنَّهُ يَتَأَدَّى بِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إذَا صَارَ الْكَفِيلُ مُلْتَزِمًا عِنْدَ امْتِنَاعِ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ التَّقَاضِي وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَضَى بِكَفَالَةٍ وَقَالَ: إنَّ الْكَفِيلَ غَارِمٌ. وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الْكَفَالَةِ مُطْلَقًا. لَكِنْ لَا يَكُونُ مُسْتَحِقَّ التَّسْلِيمِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ أَنَّ الْكَفِيلَ غَارِمٌ لَهُ.
وَإِذَا كَفَلَ الرَّجُلُ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ فَلِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ أَيَّهمَا شَاءَ وَبِمُطَالَبَةِ أَحَدِهِمَا لَا يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي مُطَالَبَةِ الْآخَرِ بِخِلَافِ الْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ وَقَدْ بَيَّنَّا نَوْعَ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا. وَنَوْعٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ هُنَاكَ الْحَقَّ قِبَلَ أَحَدِهِمَا فَيُعَيَّنُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute