نِهَايَةٌ فِي الْخَيْرِيَّةِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ» «وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْجِدَ فَرَأَى رَجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فِي ثَوْبٍ فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا هَلْ لَكَ إلَى الشَّطْرِ هَلْ لَكَ إلَى الثُّلُثَيْنِ فَدَعَاهُمَا إلَى الصُّلْحِ وَمَا كَانَ يَدْعُوهُمَا إلَّا إلَى عَقْدٍ جَائِزٍ» وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» وَهَكَذَا كَتَبَ عَلِيٌّ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ كُلُّ صُلْحٍ جَائِزٌ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا وَهَذَا اللَّفْظُ مِنْ الْأَوَّلِ لِكِتَابِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْأَشْعَرِيِّ قَدْ اُشْتُهِرَ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَمَا ذُكِرَ فِيهِ فَهُوَ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَبِظَاهِرِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِإِبْطَالِ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ فَإِنَّهُ صُلْحٌ حَرَّمَ حَلَالًا؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إنْ كَانَ مُحِقًّا كَانَ أَخْذُ الْمَالِ حَلَالًا لَهُ قَبْلَ الصُّلْحِ وَحَرُمَ بِالصُّلْحِ وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فَقَدْ كَانَ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ حَرَامًا عَلَيْهِ قَبْلَ الصُّلْحِ فَهُوَ صُلْحٌ حَرَّمَ حَلَالًا وَأَحَلَّ حَرَامًا وَلَكِنَّا نَقُولُ لَيْسَ الْمُرَادُ هَذَا فَإِنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْإِقْرَارِ لَا يَخْلُو عَنْ هَذَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي الْعَادَةِ يَقَعُ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ فَمَا زَادَ عَلَى الْمَأْخُوذِ إلَى تَمَامِ الْحَقِّ كَانَ حَلَالًا لِلْمُدَّعِي أَخْذُهُ قَبْلَ الصُّلْحِ وَحَرُمَ بِالصُّلْحِ وَكَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْعُهُ قَبْلَ الصُّلْحِ وَحَلَّ بِالصُّلْحِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ هَذَا وَالصُّلْحُ الَّذِي حَرَّمَ حَلَالًا وَهُوَ أَنْ يُصَالِحَ إحْدَى زَوْجَتَيْهِ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ الْأُخْرَى أَوْ يُصَالِحَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ جَارِيَتَهُ وَالصُّلْحُ الَّذِي أَحَلَّ حَرَامًا هُوَ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الصُّلْحِ بَاطِلٌ عِنْدَنَا وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ الْمُطْلَقَ مَا هُوَ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ وَالْحَلَالَ الْمُطْلَقَ مَا هُوَ حَلَالٌ لِعَيْنِهِ (ثُمَّ ذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ) أَنَّهُ أَتَى فِي شَيْءٍ فَقَالَ: إنَّهُ لَجَوْرٌ وَلَوْلَا أَنَّهُ صُلْحٌ لَرَدَدْتُهُ وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الصُّلْحِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَجَوْرٌ أَيْ هُوَ مَائِلٌ عَمَّا يَقْتَضِيهِ الْحُكْمُ أَوْ عَمَّا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ اجْتِهَادِي مِنْ حُكْمِ الْحَادِثَةِ وَالْجَوْرُ هُوَ الْمَيْلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: ٩] أَيْ مَائِلٌ
وَفِيهِ قَالَ إنَّ الصُّلْحَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْحُكْمِ جَائِزٌ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ مِنْهُمَا وَبِالتَّرَاضِي يَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِنَقْلِ حَقِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَهَذَا لَمْ يَرُدَّهُ عَلِيٌّ وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ صُولِحَتْ عَلَى ثَمَنِهَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهَا كَمْ تَرَكَ زَوْجُهَا فَتِلْكَ الرِّيبَةُ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الرُّبْيَةُ وَمَعْنَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ الشَّكُّ يَعْنِي إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهَا كَمْ تَرَكَ زَوْجُهَا فَذَلِكَ يُوقِعُهَا فِي الشَّكِّ لَعَلَّ نَصِيبَهَا أَكْثَرُ مِمَّا أَخَذَتْ وَقَوْلُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute