للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْلِهِ رَدَدْتُ وَهُوَ تَسَلَّطَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمُودِعِ وَإِنَّمَا الْيَمِينُ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ.

(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِفَ كَانَ بَرِيئًا وَهُنَا الْيَمِينُ حَقٌّ لِلْمُدَّعِي قَبْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ عَلَى مَا قَدْ قَرَّرْنَا فَيَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَلَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْإِقْرَارِ فِي ضِمْنِ الصُّلْحِ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ هُوَ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ وَلَا أَكْلٍ بِالْبَاطِلِ وَلَكِنَّهُ بَذْلٌ مُقَيَّدٌ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهِمَا

وَفِي الْحَقِيقَةِ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْبَنِي عَلَى الْإِبْرَاءِ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ بِعِوَضٍ وَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّمْلِيكِ يَغْلِبُ فِي الصُّلْحِ فَيَكُونُ كَالْبَيْعِ وَجَهَالَةُ الْمَبِيعِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَكَذَلِكَ جَهَالَةُ الْمُصَالَحِ عَنْهُ وَعِنْدَنَا ذَلِكَ جَائِزٌ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ وَاعْتِمَادُنَا فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَ خَالِدًا إلَى بَنِي جَذِيمَةَ دَاعِيًا لَا مُقَاتِلًا وَبَلَغَهُ مَا صَنَعَ خَالِدٌ أَعْطَى عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَالًا وَقَالَ: ائْتِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيْكَ وَأَدِّهِمْ كُلَّ نَفْسٍ ذَا مَالٍ فَأَتَاهُمْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَوَدَّاهُمْ حَتَّى مِيلَغَةَ الْكَلْبِ فَبَقِيَ فِي يَدِهِ مَالٌ فَقَالَ هَذَا لَكُمْ مِمَّا لَا تَعْلَمُونَهُ أَنْتُمْ وَلَا يَعْلَمُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ» فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى جَوَازِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ بِعِوَضٍ «وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ اذْهَبَا تَحَرَّيَا وَأَقْرِعَا وَتَوَخَّيَا وَاسْتَهِمَا، ثُمَّ لِيُحَلِّلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ» وَهَذَا إبْرَاءٌ عَنْ الْحَقِّ الْمَجْهُولِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّسْلِيمِ فَالْجَهَالَةُ فِيهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الصُّلْحِ فَفِي بَيَانِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَجْوَزُ مَا يَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ قَدْ طَعَنَ فِي هَذَا اللَّفْظِ بَعْضُ النَّاسِ

وَقَالَ: الِاخْتِلَافُ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ اخْتِلَافٌ ظَاهِرٌ فَكَيْف يَكُونُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ أَجْوَزُ مِنْ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ مُرَادُهُ أَنَّهُ أَنْفَذُ وَأَلْزَمُ فَالصُّلْحُ مَعَ الْإِقْرَارِ يَفْسُدُ بِأَسْبَابٍ لَا يَفْسُدُ الصُّلْحُ مَعَ الْإِنْكَارِ بِذَلِكَ السَّبَبِ أَوْ مُرَادُهُ أَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْإِقْرَارُ اسْتَوْفَى الْمُدَّعِي حَقَّهُ فَلَا حَاجَة إلَى الصُّلْحِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْإِنْكَارِ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ الْمُدَّعِي إلَى بَعْضِ حَقِّهِ أَوْ مُرَادُهُ أَنَّ ثَمَرَةَ الصُّلْحِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْإِنْكَارِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ مَعَ الْإِقْرَارِ لَا تَمْتَدُّ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا وَالْعَقْدُ الَّذِي يُفِيدُ ثَمَرَتَهُ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْجَوَازِ مِمَّا لَا يَكُونُ مُفِيدًا ثَمَرَتُهُ، ثُمَّ الصُّلْحُ عَلَى الْإِقْرَارِ تَمْلِيكُ مَالٍ بِمَالٍ فَيَكُونُ بَيْعًا

<<  <  ج: ص:  >  >>